نشرع وإياكم في أول نوفيلا أشارك بها في مسابقة النوفيلا الحرة 2022 والتي ستكون ضمن فئة الرومنسية والروحانية...الفكرة رقم 1 ورشة من رقم 109
تفقدوا حساب المسابقة من هنا OpenNovellaContestAR وتمنوا لي التوفيق
ملاحظة هامة : قصص الحب هي مجرد قصص خيالية غرضها الترفيه فقط والحب الحقيقي غير موجود والشخص المخلص الذي لا يخون غير حقيقي البتة لذا لا تنخدعوا بالخزعبلات التي ترونها في قصصي أو أي قصص أخرى لأن الواقع والقصص مختلفان تماااااااما
ولا تنسوا متابعة إنستغرامي bothaina__ali
لنقل بسم الله ولنبدأ
بثينة علي
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:16 pm عدل 3 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
«حل فصل الربيع وتفتحت أزهار شجرة المشمش المطلة على نافذة غرفتي، رائحتها العبقة أنعشت ذاكرتي لتعيدني سنوات للخلف نحو طفولة مَلْئى بالسعادة والابتهاج...»
رفعت بطلتنا قلمها عن الدفتر الذي كانت تكتب آخر بنات أفكارها عليه، بعد أن باءت محاولتها بالفشل مزقت الورقة ثم كورتها بتململ ورمتها في سلة القمامة القريبة منها وهمت بكتابة غيرها.
«السعادة، ماذا تكون السعادة؟ هل هي شيء يستحق أن نحارب لأجله...؟»
قامت بتمزيق الورقة مجددا وتكويرها وهي تتنهد بعمق مخرجة خالص الأسى والإحباط من صدرها. أرادت أن تكتب مقدمة لرواية جديدة ولكن في كل مرة لا يحالفها الحظ فتضطر لرميها كسابقاتها.
مؤخرا لم تعد تمتلك الشغف أو الأفكار لكتابة أي شيء لكنها مضطرة لنشر شيء على صفحتها على واتباد والتي هُجرت لأشهر ولم يتم تحديث أي شيء جديد بها.
قاطعتها والدتها وهي تدخل الغرفة حاملة ملابسها الجافة وتحدثت قائلة:
-«بثينة، لقد جفت ملابسك، ضعيها مكانها في الخزانة»
أجابتها بتململ:
-«لا يا أمي فأنا مشغولة»
قطبت الأم حاجبيها وصرخت قائلة:
-«مشغولة بماذا؟ بنشر القصص السخيفة؟ ما رأيك بدل تضييع الوقت أن تبحثي عن وظيفة شاغرة تنفعين بها نفسك»
-«فعلت يا أمي وأنتظر أن يردوا علي، ثم لن تفهمي أبدا أن الكتابة مجرد هواية لا غير ولا يمكن أن تشغلني عن عملي لو توفر»
-«وماذا استفدتِ منها؟ أخبريني»
أحنت بثينة رأسها بإحباط لكن سرعان ما رفعته مجددا وقالت:
-«استفدت أشياء لن تفهميها وأنا بغنى عن شرحها لأي أحد لأنها معقدة، شكرا على إحضار ثيابي، سأقوم بوضعها في الخزانة»
قامت بطلتنا والتقطت ملابسها ورتبتها في الخزانة تحت ناظري والدتها التي قابلتها بحاجبين مقطوبين كونها لا تفهم ما مشكلة ابنتها ولماذا تشعر بالاستياء كلما حدثها أحدهم عن هوايتها.
انشغلت بترتيب الملابس وحيدة في غرفتها إلى أن سمعت صوت إشعار قادم من الهاتف، حملته وتفقدته فوجدت رسالة من شخص مجهول يلقي عليها السلام فهمست لنفسها قائلة:
-«هؤلاء الأشخاص الذين يراسلونني على الخاص مزعجون، لن أرد، كما أنه يبدو شابا من خلال حسابه»
تجاهلته كونها تكره الحديث في الخاص مع أي أحد لو لم يكن موضوعا طارئا أو استفسارا لذا وضعت هاتفها جانبا وواصلت ترتيب ثيابها في الخزانة.
ومرة ثانية وصلها إشعار آخر وعندما تفقدته وجدت رسالة من نفس الشخص يخبرها أنه متابع قديم لحسابها ومن خلال قراءته لأعمالها شعر بكمية العواطف والأحاسيس التي تضعها فيها لذا هو مدمن عليها ويقرؤها باستمرار.
ابتسمت من رسالته وشكرته على كلامه الجميل فمن عادتها أن تكون ممتنة لكل من يمدحها ولم تتجاهل كلماتهم اللطيفة من قبل حتى لا يشعروا بأنها متكبرة ومصطنعة.
وضعت الهاتف جانبا وما كادت تخطو خطوتين مبتعدة حتى سمعت صوت إشعار آخر وعندما تفقدته وجدت رسالة ثالثة أيضا من نفس الشخص يخبرها فيها أنه يريد منها كتابة رواية عن قصة حياته.
لم تعر الأمر اهتماما بالغا لذا ردت ببرود قائلة:
-«آسفة لكن لا أحب كتابة الروايات العادية، ربما لم تلاحظ ذلك لكنني أميل أكثر لكتابة الأفكار الغريبة وغير المتداولة، أما قصة حياتك فقد لا تكون بالشيء الجلل الذي قد ينفع كرواية، آسفة لا أقصد الإساءة بأي شكل من الأشكال فأنا متطلبة جدا ومخلصة لما أكتبه ولو لم يكن يخصني فلن أستطيع الإبداع فيه»
أجابها في نفس الثانية قائلا:
-«أنتِ تجرحين مشاعري، ثم ما أدراكِ أن قصة حياتي عادية؟»
أجابته:
-«لست متأكدة ولكن لا أظن أنها توافي معاييري المتطلبة جدا جدا»
-«سأدفع لكِ 500 دولار مقابل أن تكتبيها وتنشريها في حسابك»
فجأة فتحت عينيها وازدردت ريقها مخبرة عن صدمة أصابتها لسماع فحوى كلامه، خمس مائة دولار هي مبلغ كبير لو تم تحويله للدينار الجزائري، لذا أجابته بسرعة:
-«لماذا تريد تخريب هذا المبلغ على رواية سخيفة قد لا تنجح؟!»
-«وما أدراكِ أنها لن تنجح؟ أنتِ متسرعة في الحكم، ظننت أن هاويات الكتابة هادئات وحكيمات»
-«فقط أنا مستغربة، لماذا قد يدفع أي أحد مبلغا كهذا لفتاة هاوية أعمالها عادية وبسيطة من أجل كتابة قصة حياته؟!»
-«نعم المعجبون مهووسون، وأنا معجب مهووس بك وقد أرتكب أشياء سخيفة دون تفكير، لكن متأكد أنني لن أندم، موافقة؟»
فكرت مليا وتذكرت أنها بدون وظيفة حاليا وقد تكون فرصة ذهبية، إنها أشبه بوظيفة جديدة يمكنها بذل قصارى جهدها عليها وجني المال ومنه تمارس هوايتها المفضلة لذا أجابته بعد تفكير دام لدقائق:
-«موافقة، أخبرني بقصتك وكلي آذان صاغية»
-«كتابيا؟»
-«بلى، ألا تستطيع؟»
-«ستنكسر أصابعي قبل أن أحكي جُزَيْئًا منها لذا هلاَّ تقابلنا أحسن؟ أظن أن جهد الكلام سيكون أقل»
-«نتقابل؟! هل نستطيع؟! ترى من أين أنت؟!»
-«الجزائر، مدينة سطيف»
انصدمت مما سمعته فهذه أول مرة تقابل شخصا من معجبيها يسكن وإياها نفس البلد والمدينة، لكن كونها مفلسة وهذه فرصة عمل لا تعوض فقد وافقت فورا قائلة:
-«لا مشكلة، أخبرني بالمكان الذي نلتقي فيه وأنا سآتي إليك في الغد»
-«حسنا»
من شدة حماسها ابتسمت وركضت نحو والدتها في المطبخ تعانقها بحرارة صارخة:
-«أمي! حصلت على مقابلة عمل أخيرا وإن حصل اتفاق سأجني المال»
أجابتها والدتها وهي تبادلها العناق:
-«مبروك يا ابنتي، عرفت أن دراستك الجامعية لن تذهب أدراج الرياح»
قطبت بثينة حاجبيها وابتعدت عن والدتها وهي تلعب بأصابعها بتردد، احتارت بين إخبارها الحقيقة أو كتمان الأمر فهو يبدو غريبا، وفي النهاية قررت إخفاءه عنها فهي كثيرة القلق وستمنعها كون الموضوع مثيرا للريبة.
في النهاية ابتسمت وقالت بمزاح:
-«رأيتِ؟ عرفت أنهم سيتصلون، ولا تقلقي فبالتأكيد سنتفق، متأكدة أنهم لن يُضيعوا منهم فتاةً بذكائي ومستواي التعليمي الجيد»
في يوم الغد تجهزت بثينة بحماس ووقفت أمام المرآة تتأكد من مظهرها، كانت تبدو طبيعية جدا بملابسها العادية التي هي عبارة عن سروال جينز وقميص وسترة، حتى وجهها خالٍ من مساحيق التجميل تماما فهي تحب كونها طبيعية وفخورة بجمالها الحقيقي، إضافة لتسريحة شعرها الطبيعية فقد فردت شعرها ووضعت عليه دبوسا لترفع الغرة لأعلى.
ابتسمت لنفسها وقالت:
-«لا أعلم لماذا أنا متوترة! أبدو كمن ستذهب لمقابلة شاب في موعد لأول مرة، غريب أن أستعيد هذا الشعور الذي لم يساورني لسنوات»
فجأة تحولت ابتسامتها لعبوس طفيف وعدم ارتياح ولكنها حاولت الابتسام مجددا وقالت لنفسها محمسةً:
-«كم أنتِ رائعة بثينة، لا تكتئبي، لقد وعدتني أن تحبي نفسك وتمنحيها ابتسامة دائمة، كوني قوية هيا»
ارتدت حذاءها بسرعة وركضت لتصل على الموعد وأثناء طريقها حدثت نفسها قائلة:
-«أتمنى أن تكون فكرته للرواية جيدة فأنا بحاجة لإلهام، لا تعجبني فكرة نشر شيء في حسابي فقط لأجل المال لكنني مضطرة»
وصلت بطلتنا أخيرا لوجهتها في أحد المقاهي وجلست في طاولة بعيدة عن باقي الزبائن فهي غير اجتماعية بطبيعتها وتحب العزلة والهدوء والبقاء في الأماكن الجانبية.
انتظرت بعض الوقت وهي تحدق من حولها باحثة عن أي أحد متجه صوبها لعله الشخص المنتظر لكن لم يكن هناك سوى زبائن يدخلون ويخرجون من المقهى مشغولين بأمورهم الخاصة.
تأخر الوقت وهي تحدق بساعتها وتحسب الدقائق ومن حين لآخر تتنهد بعمق مخرجة قدرا عاليا من التوتر الذي اجتاح صدرها.
بعد أن كادت تيأس من قدومه اتصلت به لتعرف أين صار لكنها توقفت وأخفضت هاتفها حين سمعت صوت أقدام يتجه ناحيتها، رفعت رأسها بسرعة ونظرت للقابع أمامها لترى شابا مألوف الملامح بابتسامة مشرقة وعينين مبتهجتين، كان يرتدي ملابس رسمية وكل شيء في شكله يوحي أنه يعيش الرفاهية المادية.
ارتجفت أواصلها واهتزت شفاهها وهي تحدق به واكتفت بالصمت ومراقبة ما ستؤول إليه الأمور.
بعد أن رأى منها ردة الفعل تلك جلس مقابلا لها وهو محافظ على ابتسامته مما جعلها تشعر بالريبة فنطقت بصوت مهتز متقطع:
-«عذرا منك، أنتظر أحدهم هنا»
أجابها بينما يضع كلتا يديه على الطاولة ويشبكهما ببعض ويبتسم:
-«أعلم، وأنا هو»
رفع يده نحوها ليصافحها لكنها أبقت ناظريها على يده التي كانت ترتجف من حين لآخر وهو يحاول إبقاءها ثابتة، عاد بها الزمن سنوات للخلف حين شهدت نفس اللقطة منه ولكن في ظروف ومكان مختلفين.
شوش أفكارها رؤيتها له يسحب يده بعد أن رفضت مبادلته المصافحة ثم تحدث قائلا:
-«أعلم أنها حقيقة صادمة بالنسبة إليك، لكن نعم، أنا من معجبيك»
ردت عليه بنبرة باردة خالية من أي اهتمام:
-«كيف عرفت اسم حسابي؟ كيف عثرت علي؟»
-«ليس بالأمر الصعب، أنتِ تضعين صورتكِ الشخصية واسمك»
-«بحثت عني؟»
-«صدقا لا، كنت أتصفح الإنترنت فعثرت عليك، جميل أن أعرف أن حبيبتي السابقة صارت كاتبة»
-«من الأصح قول فتاة كنت تعرفها»
-«إن كان هذا يريحك فحسنا سأناديكِ هكذا، جميل أن أعرف أن فتاةً كانت من معارفي ذات يوم أصبحت كاتبة»
-«هل ما قلته في الرسائل حقيقي؟»
-«نعم، حقيقي، أريد منكِ أن تكتبي قصة حياتي مقابل المال»
-«بصراحة لم أعد متأكدة، العلاقة بيننا سيئة»
-«من الذي علاقته بالآخر سيئة؟ تقصدينني؟ لا أبدا، لست أكن لكِ أي ضغينة ولست هنا لأحاسبك على الأيام الخوالي، شاء الله أن يلاقيني بكِ فقررت جعلكِ كاتبة لقصة حياتي ولا أرى غيركِ كفؤا لهذا بعد، أتوافقين؟»
شددت بثينة على قبضتها المُخفاة تحت الطاولة وهي تهمس بينها وبين نفسها قائلة:
-«لا تُكن لي أي ضغينة؟! ولماذا تفعل وأنت من أخطأت في حقي وحطمت قلبي ورميتني في جحيم الاكتئاب لسنوات، أنا من يحق لها الحديث عن الضغينة لا أنت»
بعد أن أدرك القابع أمامها أنها مترددة حاول مراعاتها وتحدث قائلا:
-«في حال ما كنتِ تريدين الرفض فأنتِ حرة، فقط أردت إخبارك أنه ما من ضغينة بيننا وأحببت تبيين الأمر وجها لوجه»
أومأت برأسها بنعم بهدوء بعد أن فهمت قصده ولكنها لم ترفع نظرها نحوه البتة وقالت:
-«سأفكر في الأمر أكثر»
أذعن الضيف لطلبها وابتسم ثم رفع يده مجددا نحوها ليصافحها وقال:
-«سررت بمقابلتك مجددا، في حال أردتِ أن نتعارف من البداية فأعرفك نفسي، أدعى إسلام»
كانت شفتاها على وشك الارتجاف وهما تنطقان حين نبست الكلام:
-«سررت بلقائك، أنا أدعى بثينة علي»
-«تشرفنا، هل تشربين شيئا؟»
-«لا شكرا، تأخرت عن العودة للمنزل وأمي تراسلني منذ وقت، شكرا جزيلا، أراك في القريب العاجل»
بادلته المصافحة بسرعة وهمت بالخروج من المقهى بخطوات مضطربة وسريعة، واصل جسدها الارتجاف ببطء وشعرت بالبرد من شدة هول الموقف الذي وُضعت فيه.
بمجرد وصولها للحافلة استندت على الكرسي بظهرها وتنهدت بعمق وهي تضع يدها على قلبها وتكلم نفسها قائلة:
-«لقاء غريب! بعد ثلاث سنوات!»
عادت للمنزل وهي شاردة الذهن تحدق بالفراغ بذهول غير مصدقة لما حصل قبل دقائق، استقبلتها والدتها بابتسامة وتمسكت بذراعها وتحدثت قائلة:
-«متى ستبدئين؟»
لم تبدي الأخرى أي رد فعل ثم ذهبت لغرفتها ورمت نفسها على السرير فلحقت بها والدتها وقالت:
-«لم يتم قبولك! ولماذا كل هذا اليأس؟ ليست آخر وظيفة في العالم، ستجدين فرصا غيرها، فقط أبعدي هذا الوجه التعيس من أمامي فرؤيتكِ هكذا تخيفني»
ابتسمت لها بثينة بتكلف ثم انقلبت لتنام على بطنها وتدفن وجهها في أعماق الوسادة مخفية إياه عن والدتها.
خرجت الأم من الغرفة فتقلبت بثينة على ظهرها وبقيت تحدق بالسقف بشرود تفكر في الحادثة الغريبة التي حدثت اليوم، لم تتوقع في يوم من الأيام أن سبب كابوسها الذي عانت لتخرج منه لسنوات هو واحد من معجبي أعمالها والأغرب أنه يريد بدء صفقة معها مقابل المال.
فجأة صارت تتبادر في ذهنها ذكرى لهما من أول لقاء، كان ذاك اللقاء قبل 4 سنوات وكانت يده ترتجف، بالضبط كما حصل اليوم، لقد كان يتظاهر أمامها بأنه متوتر وخائف لتصدق أنه خجول ولم يقابل فتاةً من قبل ويخرج معها في موعد، لكن ما اكتشفته لاحقا كان صادما.
بعد تفكير عميق دام لدقائق قررت أن ترفض ذلك العرض وتستمر بحياتها الطبيعية كما كانت، لا شيء أفضل من تجاهل ما يعكر مزاجك، كانت هذه القاعدة رفيقتها وأنيستها في محطات حياتها السابقة ولولاها ما تمكنت من الاستمرار لحد اللحظة.
حملت هاتفها لتكتب له رسالة تخبره فيها برفض العرض ولكن فاجأها صوت الهاتف معلنا عن اتصال من صديقتها مريم فردت عليها مباشرة كونها في حاجة ماسة إليها.
بمجرد أن ردت صرخت بدلال:
-«ساعديني، لقد وقعت في موقف لا تحمد عقباه»
قطبت مريم حاجبيها وقالت:
-«ما الأمر؟! كنت أود الاطمئنان عليكِ لكن تصرفاتك غريبة!»
-«ذاك الوغد، لقد تواصل معي، ألم تقولي أنه لن يفعل إن تجاهلته لفترة معينة؟ ما باله عاد بعد كل هذه السنوات ليوقع اتفاقا غريبا معي؟»
أجابتها الأخرى بينما تفرك مؤخرة رأسها بعدم فهم:
-«اهدئي وأخبريني ما القصة»
أخبرتها بثينة بالقصة كاملة واستغرقت في سردها فترة طويلة لأنها تتنهد وتتوقف في كل جُزئية مهمة وتشرد بذهنها لفترة وهي تتذكر كم المعاناة التي عاشتها بسببه.
بعد أن انتهت من سردها شعرت مريم بالغضب الشديد وصرخت بحدة قائلة:
-«كيف يجرؤ؟! إياكِ وقبول عرضه لأنه سيجدها فرصة لتحريك مشاعرك وإيقاعك بشراكه مجددا»
-«أعلم، ولهذا سأرفض طلبه»
-«هيا تواصلي معه فورا وارفضي، قلبك ليس لعبة يويو ليتركك ويعود متى شاء»
-«حسنا سأخبره وأعيد الاتصال بكِ لأخبرك بالمستجدات»
قطعت الخط واتجهت مباشرة لمراسلة إسلام برسالة نصية تخبره فيها بأنها ترفض عرضه كونها لا تكتب في صفحتها إلا ما يعجبها، وانجرارها هكذا خلف المال أمر خاطئ.
بعد عدة دقائق من الانتظار وصلها الرد الذي كانت تتوقعه على كل حال، كانت متأكدة أنه سيواصل المحاولة حتى توافق، لكن ما إن فتحت الرسالة حتى انصدمت مما قرأته فيها.
كان مكتوبا بالحرف الواحد: «أرجوكِ لا ترفضي طلبي، لم يبقى لي الكثير من الوقت لأعيشه، أرجوكِ»
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:17 pm عدل 4 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
صوت خطوات أقدام لكعبٍ عالٍ تملأ المقهى تتبعها ضربة قوية على إحدى الطاولات التي يجلس عليها إسلام، كان القادم هو بثينة التي اجتاح الغضب تعابير وجهها.
قابلها الآخر بابتسامة متكلفة لكن لم يتمكن من تحسين مزاجها بل انفجرت فيه صارخةً بغضب عارم لفت كل من في المقهى:
-«ألا تسأم من الدراما والتمثيل والأكاذيب السخيفة؟ مجددا؟ تريد مني تصديق أنك مصاب بمرض السرطان ولم يبقى الكثير لتغادر هذا العالم؟ هل تظنني غبية؟»
اكتفى الآخر بالاستماع لها بينما تخرج الحروف من شفاهها بحشرجة قاتلة، كانت تتحدث بلعثمة وتحاول جاهدة الحفاظ على نبرة صوتها المهتزة أثناء الحديث، ثم واصلت رفع صوتها قائلةً:
-«من تظنني؟ بثينة الغبية التافهة التي عهدتها في السابق؟ لعلمك فأنا لم أعد تلك، أنا الآن فتاة فطنة وذكية ولن ينطلي علي تمثيلك السخيف، تود إظهار نفسك في مظهر الرجل البريء المسكين؟ خسئت، لن أنخدع بك مجددا ولن أستجيب لرغباتك، منذ الآن اتفاقنا ملغى ولن أتعب نفسي في التفكير أكثر لذا وداعا، لا تتواصل معي وجد لنفسك شيئا تنشغل به بدل محاولة السخرية مني في كل مرة، قف عند حدك أيها المريض، قف عند حدك»
كانت منفعلة لدرجة أنها كررت ضرب الطاولة بقسوة بين كل جملة وجملة وأثارت فوضى عارمة في المقهى بحيث استمع لها كل من في الموقع والتفتوا نحوها يشاهدون العرض باستمتاع.
ورغم كل ذلك بقي الآخر محافظا على نفس الابتسامة وأخيرا نطق بعد أن تركها تعبر عن غضبها قائلا:
-«اهدئي، لو كنت أعلم أنكِ ستنفعلين هكذا لما قبلت لقاءك هنا، كان من الأجدر بنا الذهاب لمكان مفتوح»
رفعت أحد حاجبيها متهكمة وضحكت بسخرية ثم قالت:
-«هل أنت أصم؟ أهذا كل ما يهمك؟ ألم تهمك كل ملاحظاتي؟ كل انفعالاتي؟ ألا تملك أي رد على كل ما قلته؟ أم مازلت تواصل التمثيل حتى بعد أن انكشفت؟»
-«فعلا، لا أخال أنني أمتلك ردا شافيا لك؛ لأن كل ما سأقوله لن يتم تصديقه»
-«أخيرا اعترفت أنك مجرد كاذب»
-«أيٌ من كلامي بالضبط يوحي أنني كاذب؟»
-«أتعلم؟ لقد سئمت الثرثرة معك، لِمَ أنتظر تبريرا من الأساس ويمكنني المغادرة وتركك فحسب»
لم تودعه حتى ولم تلقِ بالا لصراخه المستمر خلفها بأن تعود وخرجت من هناك تتنفس بعمق كما لو أنها كانت تغوص تحت الماء لساعات، نفسها منقطع وقلبها يكاد يصرخ طالبا الرحمة من سرعة نبضاته واضطرابه، بالكاد عرفت طريق العودة فقد كانت تسير في الشارع عشوائيا غير مدركة لما تفعل.
فجأة! أوقفتها ذراع تسحبها من الخلف من يدها فتوقفت بسرعة وسحبت نفسها بعيدا واستدارت نحوه لتواجهه بوجهها الغاضب وصرخت:
-«من أعطاك الحق بلمسي؟»
أجابها بعد أن اختفت ابتسامته تلك وظهر مكانها حزن ويأس:
-«أعتذر، كانت الطريقة الوحيدة لإيقافك، لا أريد أن تغادري غاضبة، لنحل سوء الفهم أولا وليمضي كلٌ في طريقه»
-«ما من سوء فهم بيننا، ألا تفهم أن كل ما أريده منك تركي وشأني؟»
-«كل هذا لأنني أخبرتك بشأن مرضي؟»
-«نعم، مرضك الذي اختلقته لكسب التعاطف»
حدق بها للحظات محاولا كتم دموعه ثم انحنى مخرجا ورقة من حقيبته وقدمها لها، لم تعر الأخرى الورقة اهتماما بل أدارت وجهها للجهة المعاكسة فقال لها:
-«فرصة واحدة، أعطني فرصة واحدة فقط لأبرر نفسي، وهذه المرة بدون أكاذيب»
رغم كرهها الشديد له التفتت نحو الورقة والتقطتها بشيء من العنف ونظرت فيها، كانت عبارة عن وثيقة موقعة من مستشفى أمراض السرطان وعليها اسمه الكامل وعمره، بمجرد رؤيتها لذلك غاصت في شرود عميق وارتجفت أواصلها لدرجة أن توترها بدا واضحا من خلال ارتجاف الورقة، كانت على وشك ذرف الدموع مما جعلها تحارب نفسها لكبح الشلالات الساخنة التي أطلقت العنان لتدفقها.
استمر الوضع للحظات وما إن كادت دموعها تنهمر حتى استدارت معطية إياه ظهرها ثم مدت يدها للخلف مسلمة الورقة له، كل ذلك حتى لا يرى دموعها، وبعد أن هدأت قليلا قالت وهي على نفس الحال:
-«فهمت، أتمنى لك الشفاء، سأعود للمنزل، ولنتحدث من خلال الرسائل النصية أحسن»
أجابها وهو يحاول تصنع الابتسامة:
-«حسنا، فقط لا تخذليني»
صمت لبعض الوقت يسترد شتات نفسه ثم قال:
-«بما أن أيامي صارت معدودة فمن فضلك خلديني في عمل من أعمالك»
-«لماذا أنا بالذات؟!»
همس بصوت غير مسموع البتة قائلا:
-«لأنني مازلت أحبكِ رغم الانفصال»
ثم قال بصوت عالٍ لكي تسمعه:
-«لأنكِ كاتبتي المفضلة، سيكون شرفا عظيما لي»
أومأت برأسها أنْ نعم ثم ودعته وغادرت وكل هذا دون أن تلتفت له وتنظر لوجهه البتة.
بعد عودتها للبيت جلست على طاولة العشاء مع والديها ومن شدة يأسها وتوترها وضعت طبق الطعام أمامها والتهمته بسرعة وشراهة أمام ناظري والديها اللذان استغربا من تصرفها المنفر الغريب.
بعد أن التهمت كل ما بطبقها للفتات الأخير وضعته أمام والدتها وصرخت:
-«المزيد لو سمحتِ»
أذعنت لها والدتها وملأت طبقها ثم جلست هادئة تراقبها وهي تأكل بشراهة إلى أن علق الطعام بحلقها فصارت تضرب على صدرها وتركض باحثة عن الماء، في تلك اللحظة تدخلت أمها وهي تلحق بها.
وصلت بثينة أخيرا للمطبخ ووقفت أمام مغسلة الماء تشرب من الحنفية بدون انقطاع فوقفت والدتها خلفها وضربت على كتفها مهونة عليها قائلةً:
-«أعلم أنكِ لستِ بخير، لا تتصرفي هكذا فالطعام لن يهرب، وأيضا آسفة لضغطي المستمر عليكِ لتحصلي على وظيفة فيبدو أن الأمر أثر سلبا على نفسيتك»
مسحت الأخرى قطرات الماء المتنازلة من شفتيها والتفتت لتواجه أمها بابتسامة متكلفة واضحة وتحدثت قائلةً:
-«لا تقلقي فالأمر ليس بشأن الوظيفة، فجأة شعرت بجوع شديد بسبب تجولي في الخارج طوال اليوم، حتى أنني لم أتناول طعام الغداء لذا فمن الطبيعي أن يصيبني ما أصاب، كوني مطمئنة فأنا بخير»
-«إن كان الأمر كذلك فلا بأس، تعالي لتناول الطعام»
-«لقد شبعت، بالإذن»
توجهت نحو غرفتها واستلقت بجانب قطها النائم على السرير ثم حملته في الهواء وصارت تحدثه قائلةً:
-«تُستُس! هل سبق ووقعت بحب قطة وقامت بخداعك؟ كيف كان شعورك حينها؟ هل هو مؤلم للقطط بقدر البشر؟ هل يترك ندوبا عميقة...»
قاطعها صوت أحدهم يطرق الباب ثم دخلت والدتها قائلةً:
-«لقد جاءت مريم لزيارتك»
بمجرد دخول مريم وإغلاقها الباب خلفها عانقتها بثينة بحرارة مغدقة إياها بخالص الحب والسعادة فقالت الأخرى:
-«لا حاجة لأسأل، أعرف أن زوابعًا من الألم تعصف في داخلك»
ردت بثينة بحزن:
-«بل أسوأ، صدري يتمزق، هناك آلاف الطيور الجائعة تنهشه من الداخل لحما وعظما»
انفجرت الأخرى ضاحكةً وقالت:
-«لأجل من؟ لأجل حثالة؟!»
-«ذاك الحثالة سيموت، لقد تم تشخيصه بمرض السرطان، عافانا الله»
سرعان ما تحولت ابتسامة مريم لصدمة وقالت:
-«تمازحينني؟»
أومأت الأخرى برأسها أنْ لا ثم توجهت للجلوس على سريرها ووضعت كفيها على وجهها بعد أن باغتتها الدموع وانهمرت خلسة.
عانقتها صديقتها وربتت على ظهرها وهي مكسورة القلب على حالها ثم قالت:
-«لا تبكي، أخبريني ماذا حصل؟»
مسحت بثينة دموعها بصعوبة وقالت بحشرجة:
-«لقد دعوت الله صباحا مساء، ليلا نهارا، في كل حال أنا عليه، دعوته حتى يتحطم ذلك المخادع، ويندم، ويتعذب أضعاف ما عذبني، لقد تمنيت له الموت مرات عدة في لحظات غفلتي لكن حين أعي على نفسي أستعيذ بالله وأقول أنه مهما فعل لي فلا يستحق الموت، أنا المذنبة لأنني أعطيت ثقتي لمن لا يستحق، أنا المذنبة لأنني وافقت على الدخول معه في علاقة، لا أعلم ما أقول، تبين أن دعواتي قد استُجيبت، أعتقد أنني السبب في مرضه»
ردت الأخرى وهي تمسح على شعرها:
-«كفى! هذا مستحيل، لو كان الله يستجيب لدعواتنا حين ندعوه بموت أي إنسان لتمكنا من قتل من نريد وعشنا بسلام، لستِ المذنبة، إنه مجرد قضاء وقدر لا يمكن تغييره»
رغم كلامها لم تتغير حال الأخرى فواصلت الكلام قائلةً:
-«ألهذا السبب طلب منكِ كتابة قصة حياته؟ لأنه سيموت؟»
قالت الأخرى:
-«نعم، يقول أنني كاتبته المفضلة، العالم غريب حقا»
تنهدت بثينة بعمق ثم قالت مواصلة حديثها:
-«بعد انفصالنا ببضع أشهر كنت أعاني الأمرين لنسيانه، وبسبب الفراغ القاتل والوحدة قررت بدأ هواية أعبر بها عن مشاعري وأفرغ عليها طاقتي السلبية وكانت تلك الهواية هي الكتابة، لقد كانت مؤنسي الوحيد في عزلتي ولها الفضل الكبير في تحسن حالي، أي أنه كان السبب في مباشرتي لهذه الهواية»
-«ثم...؟!»
-«ثم دار الزمن وانقلبت الأدوار وعاد إلي طالبا أن أكتب له رواية مستعملة الموهبة التي كان له فضل كبير في تفجرها في داخلي»
-«يال الصدفة! الزمن يعيد نفسه! علي تعلم الدرس من هذه الحادثة، لن أخدع أو أجرح أحدا أبدا حتى لا يدور الزمن وأعود للتوسل إليه هكذا»
-«نعم، أعتقد أن هذا الدرس القيم تنبيه مهم لنا جميعا»
-«هل ستوافقين على طلبه؟»
أجابتها الأخرى وهي تخفض رأسها بحزن وإحباط:
-«لا أعلم، مازلت لا أعلم كيف أتصرف لحد اللحظة، لقد قال أنها أمنيته الأخيرة، في حال وافقت فسأحققها له وأكون فتاةً جيدة وطيبة القلب لا تحقد على أحد ولا حتى على من حطمها، وفي حال رفضت سيكون انتقاما مثاليا، لكن ما رأيك؟»
قالت مريم وهي تفرك مؤخرة رأسها بتردد:
-«لا أعلم؛ السرطان شيء لا يستهان به، رغم حقدي عليه لجرحه مشاعرك لكنني أتعاطف معه فجميعنا نعرف خطورة هذا المرض الخبيث وحساسيته»
ثم تنهدت تنهيدة طويلة زفرت معها خالص الأسى والحزن وقالت:
-«قرار صعب، أصعب من اختيار تخصصي الجامعي، لم أتوقع أنني في يوم من الأيام سأتردد بخصوصه، لقد كنت دائما ذات موقف ثابت وتمكنت من صده عشرات المرات ولكن ها أنا ذا أقع وقعة قاسية في قرارٍ قاسٍ من جلادٍ قاسٍ لا يدرك الرحمة»
-«تحقيقك لأمنيته الأخيرة يعني أنكِ سامحته»
-«ومن قال أنني لم أسامحه؟ لقد سامحته حقا، ومن أعماق فؤادي، كوني أتجاهله وأصده لا يعني أنني أكرهه أو أحقد عليه، بل أنا فقط...أخاف أن يحن قلبي إن قابلته أو سمعت صوته»
أومأت الأخرى برأسها بعد أن فهمت قصدها ثم قالت:
-«موقف مؤلم، أتفهمك، وأساندك، وأيًّا ما كان قرارك فسأدعمك»
-«مازلت أحتاج مساحة للتفكير، لا أريد أن أندم»
-«محقة، خذي وقتك»
في يوم الغد استندت بثينة على الكنبة وبيدها جهاز التحكم تقلب به قنوات التلفاز باحثة عن شيء يثير اهتمامها. فجأة علا صوت والدتها من المطبخ صارخةً عليها:
-«بل بتجميع قطع روحي التي لا أعلم أين اندثرت واختفت»
-«كفي عن الكلام بلغة بليغة فأنتِ تعلمين تمام المعرفة أنني لا أفهم عليك، أسرعي فالبقالة لن تشتري نفسها»
عبست الأخرى وتنهدت بقلة حيلة ثم توجهت للمتجر باحثة عن الأغراض التي تحتاجها والدتها والتي سجلتها في قائمة طويلة بالكاد تستطيع حملها كلها في كيس واحد.
بعد أن اشترت كل شيء ووضعته في السلة قالت متذمرة:
-«ما الذي تخطط أمي لطبخه اليوم؟! عزيمة لكل المدينة؟!»
وضع البائع لها المشتريات في عدة أكياس وأثناء عملية الحساب بقيت تحدثه فهي تعرفه منذ عدة سنوات وتلقي عليه التحية كلما قابلته أو زارت متجره وهو شاب في مقتبل العمر وسيم ولطيف معها.
بعد أن أنهى أغراضها نظر إليها فلاحظ أنها غريبة على غير عادتها فقال:
-«لا أدري ما يعكر مزاجك لكن هل تحبين التفاح الأحمر؟»
أجابته مستغربة:
-«نعم، لماذا؟!»
حمل حبة تفاح من الصندوق ورماها لها فالتقطتها وابتسمت فقال لها:
-«احظي بيوم جيد أيتها الزبونة الوفية»
ضحكت على رسميته معها بصوت خافت ثم حملت أغراضها وهمت بالخروج ولكن فجأة تراجعت للخلف وعادت حيث البائع ووضعت الأغراض أرضا ثم قالت:
-«مصعب! أيمكني استشارتك في أمر؟»
-«طبعا»
-«لو أن أحدهم خذلك وخان وعوده وكذب عليك كذبة لا تستطيع مسامحته لأجلها، ودار الزمن وعاد إليك طالبا أمنية أخيرة لأنه سيموت بسبب مرض خبيث، وكان بيدك تحقيق تلك الأمنية له أو الرفض فماذا ستختار؟»
فكر الآخر مليا ووضع إصبعه على ذقنه يتلمسه بهدوء ثم قال:
-«تقصدين أن بيدك الانتقام منه أو تنفيذ طلبه الذي لن ينام مرتاحا لو لم يحققه؟»
-«أعتقد ذلك، لا أعلم بالضبط»
-«اسألي هذا السؤال لنفسك، في حال انتقمتِ منه وحرمته من تلك الأمنية الأخيرة فهل ستعيشين سعيدة مرتاحة الضمير؟»
فجأة تصنمت مكانها من هول الإجابة وعمقها وأثرها الواضح على نفسيتها، كانت إجابة كافية ببث الندم في نفسها وتغيير رأيها مائة وثمانين درجة.
بعد أن رأى الآخر ردة الفعل تلك منها واصل حديثه قائلا:
-«مشكلة الناس الطيبين هو أنهم لا يفرحون بالانتقام وانقلاب موازين الحياة، حتى لو كان الأمر يخص أشخاصا جرحوهم وعذبوهم لسنوات، أظنكِ من هذا النوع، أم أنني مخطئ؟»
أجابته بحشرجة:
-«لا أدري»
-«لا أعرف من تقصدين بكلامك ولا أعرف إن كان ذكرا أم أنثى، لكن من خلال السنوات القليلة التي عرفتكِ فيها بدوتي صادقة ونقية القلب، لا تحملين حقدا لأحد ولا تتمنين الأذية لأحد، وفي حالة كهذه أتوقع أن تختاري تنفيذ أمنية ذلك الشخص قبل موته، هذا سيجعله يغمض عينيه على خيالك الطيب والدافئ ويندم أشد ندم على الأيام الخوالي»
مع كل كلمة ينطفها تأكدت بثينة أكثر أنها لن تندم على هذا الحوار الذي فتح عينيها على حقيقة غفلت عنها طويلا، بأنها لن تعيش مرتاحة قط ما لم تحقق أمنية حبيبها السابق الأخيرة.
صحيح أنه جرحها وآلمها، ودمر سنوات من حياتها أمضتهم في الاكتئاب والعزلة، ولكن لم تنكر أن له الفضل في جعلها تعيش لحظات الحب الدافئة والسعادة المطلقة، والذكريات الوردية الجميلة.
حملت هاتفها على الفور وكتبت له رسالة نصية فحواها: «مرحبا، لقد قررت أخيرا، أود العمل معك، وأتمنى أن أكون في حسن ظنك، أخبرني متى سنبدأ»
ثم وضعت الهاتف جانبا وابتسمت بتكلف وخاطبت نفسها قائلة:
-«لا أفعل ذلك لأجلك، بل لأجلي، لأجل بثينة الطيبة، لكي لا تتألم وتشعر بالذنب بعد موتك»
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:18 pm عدل 4 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
إنه صباح يوم ربيعي هادئ، أشعة الشمس الدافئة تلطف الجو والنسيم العليل المنعش يرتطم بأوراق الأشجار الخضراء لينتج لحنًا عذبا يستمتع به كل الجالسين تحت ظلال شجيرات الحدائق.
وتحت إحدى الأشجار وبالذات عند كرسي وطاولة متموضعين في الحديقة، جلست بثينة تستمع لأغنية هادئة تترنم ألحانها بسمعها فتفقدها إحساسها بالواقع المرير وتأخذها لعالم خالٍ من الحزن واليأس.
أيقظها من أحلام يقظتها صوت القادم نحوها وهو يلقي التحية ويجلس بجانبها فأزالت السماعات من أذنيها ونظرت إليه بوجه خالٍ من أي تعابير، كان ذلك حبيبها السابق الذي لم تعتد بعد على مقابلته بوجه بشوش لأنها لا تشعر بالراحة حتى بعد قبولها للعرض.
قال الآخر بصوت خافت:
-«أتمنى أنني لم أتأخر عليك»
-«لا لم تفعل، كنت أستمع للموسيقى»
-«لا بد أنها الأغاني الكورية، هل مازلتِ من محبي الطرب الكوري؟»
فجأة استحوذ عليها شعور بالحنين أخذها بعيدا عن عالم الواقع، للأيام التي كانا فيها يتحدثان طويلا عن اهتماماتهما ونوعيهما المفضلين من أغاني الموسيقى، ومجددا قاطع شرودها بقوله:
-«يبدو أن الإجابة لا»
ردت عليه بينما تخبئ سماعاتها في الحقيبة:
-«موسيقاي المفضلة وأموري الخاصة لم تعد من شأنك، لنركز على العمل»
-«لا تغضبي، أستسمحكِ عذرا»
-«لم أغضب، تحدثت بكل موضوعية، دعنا نعمل بدل تضييع الوقت في الحديث عن اهتماماتنا»
أخرجت من حقيبتها دفترا وقلما وسط نظرات القابع أمامها والذي أحس أنها منفعلة جدا بسببه، وبعد أن اعتدلت في جلستها قالت:
-«أبهرني بقصة حياتك التي تريد تحويلها لعمل أدبي»
أجابها بعد أن اعتدل هو الآخر:
-«حسنا، لنقل أن حياتي مرت بثلاث مراحل، طفولة فمراهقة فشباب»
-«فهمت، سأسجل ذلك»
-«لنبدأ بالطفولة ونترك البقية لجلسات أخرى»
-«هذا أنسب، ابدأ»
-«ها نحن ذا، الطفولة...»
توقف قليلا يتذكر ما سيرويه ثم قال:
-«ولدت في عائلة متوسطة الدخل تحبني وتهتم بي، لم نكن نعاني أي مشاكل ولم يتشاجر والداي ولا مرة، كنت محبوبا للغاية لأنني الابن الأكبر لتلك العائلة والجميع يعتمد علي»
بينما تمسك بثينة بالقلم لتكتب ارتجفت يداها ولم تسجل أي حرف مما قاله، كانت شاردة الذهن لأنها تعرف أن ما يقوله ضربٌ من الوهم.
بعد أن شاهدها على ذلك الحال واصل الكلام قائلا:
-«كنت أسعد طفل في العالم، قضيت أجمل طفولة قد يحلم بها بشري وكل طلباتي مجابة و...»
فجأة وضعت القلم على الطاولة بشيء من العنف ونظرت له بحدة قاطبة حاجبيها وقالت:
-«ما الذي تفعله بالضبط؟!»
-«أردت اضافة لمسات خيالية، اهدئي»
ردت عليه بنبرة حادة تعبر عن انزعاجها:
-«كف عن الكذب، كلانا نعرف أي نوع هي عائلتك»
-«ما دمتِ تعرفين فلتكتبي»
أخذت القلم مجددا وكتبت وهي تتحدث بصوت مسموع:
-«العائلة التي ولدت فيها عائلة قاسية، لا تعرف الرحمة، متوحشة، سيئة، باردة، لا تمت للأسرة بصلة، يعاملونك على أنك فرد دخيل عليهم ولا يحبونك»
ابتسم لها بتكلف وقال:
-«لأنني ابن زنا...»
قاطعته قائلة:
-«أخبرتك سابقا أن لا تقول هذه الكلمة عن نفسك، لستَ كذلك، هذا ليس خطأك، بل خطأ والدتك، هي التي يجب أن تُحاسب لا أنت»
رد عليها بنوع من الاستهزاء:
-«لا أحد سيناديها بابنة الزنا ويسخر منها لأنها ليست كذلك، أنا هو ابن الزنا، أنا من يسخر مني الطلاب في المدارس وأنا من يعايرني الناس بهذا اللفظ غرض استفزازي، وأيضا أنا من تعرض للنبذ في عائلته، أنا الملام الوحيد لأنني ابن زنا»
بسبب الكلمات البائسة التي خرجت من بين شفاهه فقدت السيطرة على أحاسيسها التي لجمتها داخل صدرها غصبا واغرورقت عيناها.
بعد فترة أردف إسلام:
-«أكملي الكتابة، تزوجت والدتي وأنا ذو السنتين وأنجبت إخوة غيري، وطوال الوقت كنت الفرد المهمش في العائلة وخاصة من زوج أمي، كان يعامل جميع إخوتي أفضل مني، لم أعرف حنان الأب منه قط، ولا حتى حنان الأمومة من أمي، هي تعتبرني مجرد خطأ ندمت عليه لحد اللحظة»
نطقت الأخرى بحشرجة:
-«توقف رجاءً»
لكنه تجاهل توسلها واستأنف كلامه قائلا:
-«الوحيد الذي كان يحبني هو خالي وأنتِ تعلمين ذلك، لطالما كنت أحكي لكِ عن مغامراتي معه، خاصة أنه لا يملك أطفالا لذا اعتبرني طفله...»
توقف قليلا ثم أكمل بحشرجة:
-«أمي ليست امرأة جيدة يا بثينة، ليست كذلك البتة، رغم تغيرها في الحاضر لكن ماضيها لا يقل وساخة عن ممثلات الإباحية»
أجابته بعد أن طفح بها الكيل:
-«توقف رجاءً، كف عن وصف نفسك ووالدتك بألفاظ مهينة»
-«متى كانت الحقيقة إهانات؟»
-«بغض النظر عن أنها حقائق، لكن هناك مثل يقول: العالم كله ضدك فلا تكن أنت أيضا ضد نفسك»
-«ليتني أقدر»
نظر من حوله باحثا عن قنينة ماء يروي بها عطشه ولم يجد، لكن بثينة أخرجت قنينة من حقيبتها وقدمتها له فالتقطها وشربها، وبعد أن روى ضمأه أردف قائلا:
-«سأموت ولا أحد يهتم، هذا أكثر ما يجرح مشاعري، أنا نكرة، مجرد نكره منبوذ عديم الفائدة لن يجد حتى من يبكي في جنازته»
تمزقت نياط قلب الأخرى وهي تستمع لكلامه المدمي للفؤاد، أرادت أن تصرخ عاليا بأنها ستحزن لأجله وتبكي عليه لكن هيهات فقلبها اعتاد على البكاء في صمت منذ انفصالهما، بعد أن وضع القنينة على الطاولة قام من كرسيه وقال:
-«سأذهب لدورة المياه، لن أتأخر»
أومأت له أنْ نعم فسار عدة خطوات مبتعدا، وبينما تراقبه رأته يتوقف فجأة ويضع يده على رأسه ويترنح يمينا يسارا كما لو أنه سيسقط، أسرعت إليه وقبل أن تبلغه تهاوى أرضًا بعد أن فقد توازنه مما جعلها تشعر بالقلق.
جرته من ذراعه وقادته نحو المقعد ولحسن حظها انه ما يزال محتفظا ببعض وعيه، سكبت الماء على وجهه وتفحصت نبضه وتنفسه فوجدت أنه يزفر بصعوبة فقالت بقلق:
-«دائما أنسى شحن هاتفي فينطفئ علي في منتصف الطريق»
لم يكن بيدها حل سوى إخراج هاتفه من جيبه ففعلت ذلك ولكنها انصدمت حين شغلت الشاشة ورأت صورتهما معًا خلفية للهاتف، حينها تجمدت ملامح وجهها وشردت بذهنها لتلك الذكرى لهما معا حين التقطا الصورة.
فجأة رأت يده ترتفع مرتجفة وتختطف منها الهاتف بعد أن استعاد وعيه تقريبا ونطق بلعثمة:
-«أنا بخير...يمكنكِ المغادرة...كنت سأغادر على كل حال»
اغرورقت عيناها وقالت بحشرجة تمزق صدرها:
-«كف عن الكذب على نفسك، أنت تحتضر، لست بخير»
ابتسم لها بينما يتمزق ألما وقال:
-«أشعر بالسعادة، في النهاية يبدو أنني أملك شخصا يحزن علي إن مت»
استفزها كلامه المنفر وكانت ستضربه لولا أنها رأفت به بسبب مرضه لذا صمتت وبقيت بجانبه تتفحص تنفسه ووعيه إلى أن استعاده كليا وعاد كل منهما لبيته بعد أن أنهيا كتابة ملخص أول جزء من الرواية.
بينما تفتش بثينة في خزانتها عثرت على بطاقة ذاكرة قديمة منسية بين الأغراض فوضعتها في هاتفها وتفقدت محتواها، كان بالفعل ما تخشاه، كانت صورا قديمة لها مع حبيبها السابق ويبدو أن الزمن عفى عنها فانطوت في طي النسيان وهُمشت في درج الخزانة القديم المُغبر.
أخذت تقلب الصور واحدة تلو الأخرى نافخة خديها بالهواء من تشوش المشاعر التي تعتريها، حزن وحنين وغضب وألم، كان هذا ما تشعر به، نعم كله دفعة واحدة.
وضعت الهاتف جانبا وضمت ساقيها إليها بحزن وأسى وتذكرت حادث اليوم عندما رأت صورتهما معا خلفية لهاتفه فقالت بشيء من الاشمئزاز:
-«ممثل بارع، لقد تعمد وضعها لكي أراها وأظنَ أنه ما يزال متيما بي، ألاعيبه صارت مكشوفة، لن أنخدع مجددا»
بعد أن أيقنت حقيقة الوضع نهضت من الأرض وتوجهت للمطبخ لتعد العشاء بدلا عن والدتها فهي تحب فعل ذلك بين الفينة والأخرى لتشغل نفسها عن التفكير فيما يحزنها.
بعد أن عادت لغرفتها جلست على سريرها بجانب قطها الأسود المحبوب ثم أخذت حاسوبها ووضعته على ساقيها لتكتب عليه آخر بنات أفكارها والتي ابتدأتها بـ: «يوم يأتي وآخر يمر، دقيقة تمضي وتنقص معها حبة رمل من عداد حياتنا القصير الذي يشبه الساعة الرملية في نمطه، كلما نزلت حبة نقص حجم الجزء العلوي منها، لا أحد منا يعرف كم سنعيش، وفي أي وضعية سنموت، وهل سنترك أثرا في الحياة نخلد به ويتذكرنا به الناس...»
بعد أن راجعت ما كتبته شعرت بعدم الرضى عنه فقالت في نفسها:
-«نفسيتي السيئة تسلب تركيزي لذا سأعدل عليها لاحقا حين أتحسن وأنشرها، صعب حقا أن أكتب شيئا جيدا تحت الضغط لذا سأكتفي بحفظها في المسودة»
بعد أن فعلت ذلك توجهت لمنصة الواتباد خاصتها وكتبت منشورا فحواه: «مرحبا أيها المتابعون اللطفاء، اليوم لدي لكم سؤال جميل، ماذا لو أن الطبيب أخبركم أن معكم مرضا قاتلا لا سمح الله ولم يبقى الكثير لانتهاء حياتكم فماذا ستفعلون؟!»
انتظرت قليلا فوصلتها العديد من الردود التي جعلتها تضحك غصبا عنها مثل:
-أحرق نقودي حتى لا تأخذها أختي. -أذهب للأشخاص الذين أكرههم وأمسح الأرض بكرامتهم شتما وضربا دون أن أقلق من التعفن في السجن فأنا سأموت قبل المحاكمة دون أدنى شك. -سأخرج كل المال الذي معي وأضعه في حوض الاستحمام وأستحم فيه كما يحصل في الأفلام. -سأسافر حول العالم. -سأشتري كل عصافير العالم وأحررها. -سأخبر عمتي أنها أفعى سامة وأنني لا أطيقها وأنام مرتاحة.
لكن من بين كل تلك التعليقات لفت انتباهها تعليق يقول: «سأطلب من كاتبتي المفضلة أن تكتب رواية عن قصة حياتي وهكذا سأشعر أنني خالد للأبد»
ابتسمت تلقائيا من رسالته رغم أنها حزينة بنفس القدر ثم توجهت للخاص وكلمته برسالة نصية كتبت فيها: «إسلام! أخبرني هل تريد فعل شيء معين قبل أن تغادر؟»
وفي نفس اللحظة رد عليها: «تقصدين قبل أن أموت؟ لا داعي لتغيير المصطلحات، قوليها بصراحة فالأمر لا يجرحني»
قطبت حاجبيها بانزعاج وردت: «أيًّا يكن، ما إجابتك؟»
كتب لها: «أن تُنهي روايتي قبل أن أموت»
ردت عليه: «أفٍ منك، أقصد أمرا آخر لطالما أردت فعله ولكنك لم تستطع ذلك بسبب انشغالك بالحياة، هيا خصص وقتك لفعل كل ما تتمناه»
كان إسلام ممسكا بالهاتف مُرتجف اليدين يحاول كبت مشاعره التي على وشك الانفجار، كتب على الهاتف عبارة: «أريد قضاء الوقت معك» ولكنه حذفها في ذات اللحظة حين أدرك أن ما يفعله خاطئ وأن إظهار مشاعره في هذه اللحظة بالذات سيجعلها تنفر منه وتنزعج.
فكر لبعض الوقت وكتب: «السفر، تناول مأكولات جديدة، الذهاب لجبل عالٍ والصراخ بأعلى صوت، رؤية الثلج، النوم في حقل مليء بالزهور، وأخيرا قضاء الوقت مع كاتبتي المفضلة»
أجابته: «جميل، إنها أمور لا نفعلها كل يوم، ما رأيك أن نبدأ بتنفيذها»
رد عليها قائلا: «نحن الاثنان؟!»
كتبت له: «بلى، أنا أيضا أريد عيش اللحظة، سأتخيل أنني سأغادر خلال فترة محددة وسأعطي نفسي بعض الوقت لأحقق بعض الأمنيات البسيطة»
رد عليها: «فهمت، لنفعلها»
ثم وضع هاتفه جانبا وابتسم وأكمل العمل الذي كان يقوم به، في نفس الوقت وضعت بثينة هاتفها على صدرها معانقة إياه وابتسمت ببلاهة، لكنها غفلت عن أمر مهم للأسف، تلك المشاعر التي عانت لدفنها خلال 3 سنوات عادت للسطح جاعلة إياها تبتسم بطريقة سخيفة وتعود للتفكير بالحب مجددا، كانت تقع شيئا فشيئا دون أن تدرك ذلك.
مر أسبوع كامل منذ آخر لقاء لهما وكان كل منهما منهمكا بأمور حياته، وفي اليوم الثامن بالتحديد أرسلت بثينة لإسلام موقعا جغرافيا على شكل رسالة نصية فذهب إلى هناك ليلتقي بها وتفاجأ أن الموقع مطعم خاص بالأكلات الآسيوية.
بعد أن دخل هم يبحث عنها فوجدها متموضعة في طاولة بعيدة عن الناس كالعادة والهدوء يعم المكان فجلس معها بعد أن ألقى عليها التحية وقال:
-«مطعم آسيوي؟!»
ابتسمت له وقالت:
-«ألم تقل أنك تريد تجربة نوع جديد من الطعام؟»
-«نعم لكن آسيوي؟ أنا لست مهووسا بالآسيويين مثلك»
قطبت حاجبيها بانزعاج وقالت:
-«لقد سهرت طوال الليل أبحث لك عن هذا المكان لتتمكن من تذوق طعام مختلف ولكنك تخيبني بهذا الكلام»
تفاجأ الآخر من كلامها وقال بتعجب:
-«فعلتِ كل ذلك لأجلي!»
تنحنحت الأخرى بتوتر بعد أن أدركت غرابة الموقف ثم ابتسمت بتكلف وقالت:
-«سأطلب لنا الطعام»
أومأ لها برأسه أنْ نعم ثم قال:
-«حسنا، اطلبي لنا ما تريدين وأنا سأدفع»
ذهبت بثينة لطاولة الخدمات وسجلت طلبها على الحاسوب وأعطاها الموظف التذكرة ثم جلست مكانها، بعد دقائق جاءت النادلة مع أطباق الطعام التي تم طلبها وتمنت لهما وجبة طيبة ثم غادرت.
نظرت بثينة للطعام واستنشقت رائحته ثم قالت مشيرة للمائدة:
-«أهلا وسهلا بك في المطبخ الآسيوي، لدينا من المطبخ الكوري "كيمباب" ومن المطبخ الياباني "التاكوياكي" أما على التحلية فهناك لمسة صينية معروفة بطبق "صينية الفراولات" إضافة لخبز اليقطين اللذيذ»
نظر الآخر للأكل بطرف عينه وبدا شكله شهيا ورائحته زكية ثم قال:
-«أتمنى أن يكون طعمه كشكله، لنأكل»
أخذ كلاهما أول لقمة من الطعام وشرعا بمضغه بهدوء ثم هزا رأسيهما برضى بعد أن تمكنا من إدراك طعمه اللذيذ اللاذع.
بعد أن تناولا الطعام ودفعا الحساب استقرا في وجهتهما التالية وهي نافورة مياه صغيرة في وسط المدينة، أخذا يحدقان بها بشرود متناسيين العالم الكئيب الغامض من حولهما.
التفتت بثينة نحو شمالها فلمحت عن قريب صالونا للتجميل فقالت بحماس:
-«عرفت ما علينا فعله الآن، لنقم بتغيير مظهرنا قليلا»
أجابها الآخر بتجهم:
-«في حال نسيتي الموضوع فأنا شاب، صالونات التجميل للفتيات فقط، ماذا قد أفعل هناك؟»
في إحدى صالونات التجميل متوسطة الخدمات وعلى أحد الكراسي تجلس بثينة مُقابلة للمرآة منتظرةً أن تبدأ مصففة الشعر عملها وتعطيها المظهر الذي تتوق إليه.
على بعد عدة أمتار وعلى كراسي الانتظار بالضبط يجلس إسلام واضعا يده على خده بتململ بينما يحدق بالمكان من حوله فتارة يرى الزبائن يدخلون ويخرجون وتارة يلقي نظرة على هاتفه وتارة يرى كيف يجري العمل داخل الصالون.
ساعات من الانتظار جعلته يتثاءب بملل ويكاد يغفو لكن أيقظته صرخة واحدة من بثينة وهي تقفز أمامه بحماس قائلة:
-«انظر من هنا، إنها الفاتنة الحلوة بثينة علي»
في البداية أفزعته فانتفض بقوة ولكن سرعان ما تحولت ملامحه للدهشة وهو يحدق بها، لقد صبغت شعرها الأسود الطويل بالأشقر كليا لتبدو كدمية شقراء جميلة، واصلت اللعب بشعرها أمامه وهي مبتسمة ثم قالت:
-«لم أجرب الأشقر في حياتي، لكن بعد تجربته أظن أنه يناسبني دون منازع، أخبرني أنت ما رأيك؟»
أجابها بينما يُتأتئ ويتلعثم:
-«عادي...أقصد لا ألاحظ فرقا كبير...مازلت أستطيع التعرف عليكِ ببساطة»
قطبت حاجبيها وقالت بينما تقلب شفتها السفلية بانزعاج:
-«كيف لا تلاحظ فرقا وقد كدتُ لا أتعرف على نفسي! ما الذي يدور ببالك؟! هل حقا أبدو عادية!؟»
-«نعم، لنذهب»
سار عدة خطوات نحو الباب لكنها شدته من ذراعه موقفة إياه فانتفض من الفزع واستدار نحوها، لحظات وهي ما تزال ممسكة به إلى أن أدركت ما فعلت فأفلتته ووقفت مقابلة له محاولة كبت توترها قائلة:
-«مهلا مهلا! لم نتفق أن نغادر بهذه البساطة، إنه دورك»
رد عليها بنبرة مهتزة مائلة للتوتر:
-«دوري! لكنني لا أريد تغيير أي شيء...»
قاطعته دافعة إياه ليجلس في كرسي فارغ وهو متوتر فقال:
-«حقا لا أريد»
أجابته وهي تمسك بطرف الكرسي بأصابعها وتحوم عند رأسه ذهابا وإيابا:
-«لا تقلق، ستحب نفسك كثيرا»
بعد دقائق أتت مصففة الشعر لتهتم به وقالت:
-«كيف أخدمك سيدي؟»
أجابها وهو قاطب حاجبيه:
-«لا شيء، أريد فقط المغادرة و...»
قاطعته بثينة قائلة للمصففة:
-«أنا من ستختار له، تعالي سأخبرك»
همست في أذنها فأومأت المصففة برأسها بالإيجاب ثم بدأت العمل على شعره بينما يصرخ بتذمر عليها من حين لآخر أن تكون حذرة ولا تحرق خصلاته التي يحبها ويهتم بها كثيرا.
بعد ساعات من العمل انتهت وحانت لحظة الحقيقة، فتح إسلام عينيه فانصدم بأن وجد شعره مصبوغا بالأزرق الملكي ولطم وجهه من شدة الفاجعة.
بعد أن رأت بثينة ردة الفعل تلك منه حاولت تهدئته قائلة:
-«إنه رائع عليك فلا تتشاءم من نفسك»
نبس الآخر بانزعاج:
-«أزرق ملكي؟! ظننت أنكِ ستختارين لونا عاديا كالبني أو الأشقر لكن الأزرق الملكي لون مجنون! صرت أشبه الكوريين كثيرا الآن، سيناديني رفاقي بالكوري طوال الوقت وسأتعرض للتنمر بنسبة أكبر مما كنت سابقا»
فركت الأخرى رأسها بتوتر وقالت:
-«مازلت أراك لطيفا رغم ذلك»
-«لطيف! لست لطيف! اللطف طبع الإناث، نحن الرجال علينا أن نتحلى بالخشونة والقوة»
-«حسنا آسفة»
التفت لمصففة الشعر وقال:
-«أصلحي الكارثة، أعيديه للون الأسود الفحمي فورا»
نبست الأخرى وهي تمضغ العلكة:
-«تم صبغ شعرك مرتين بالفعل وفي حال تم صبغه للمرة الثالثة سيتلف ويسقط وهناك احتمال أن تصبح أصلع خلال أقل من أسبوع، أنصحك بالعودة بعد شهر حين ينمو الشعر من جديد ونقوم بقص الأطراف المصبوغة»
أحنى إسلام رأسه بإحباط وغادر الصالون فلحقت به بثينة محاولة مواساته لكن بينما يسيران هطلت الأمطار بغزارة مما جعلهما يركضان ليستظلا تحت أسقف إحدى المتاجر.
بقيت بثينة تحدق بالأمطار وهي تتساقط بغزارة كالشلالات المتدفقة وأعادها هذا المنظر لذكرى قديمة لهما معًا حين التقيا تحت المطر في فترة مواعدتهما، كان ينتظرها على بعد عدة أمتار متكئا على سيارته وعندما شاهدته في ذلك المنظر الشاعري تحركت مشاعرها وتعلق قلبها به أكثر.
حتى بعد انفصالهما فما زالت تكن له كل الاحترام والمودة وتتمنى له الأفضل، وها هي ذا تبتسم تلقائيا بعد أن تذكرت تلك الذكرى الجميلة لهما.
التفتت للجانب فرأته واضعا يده على بطنه والأخرى على فمه وواضح أنه منهك وعلى وشك الاستفراغ والسقوط أرضًا، وضعت يدها على كتفه وسألته عن حاله مرارا وتكرارا لكنه لم يكن يسمع أو يعي أي شيء بسبب مرضه، وفجأة انطلق راكضا مترنحا نحو حمام عمومي وبقي هناك عدة دقائق مما جعلها تنتظره في الخارج بقلق.
بعد فترة طويلة من الانتظار خرج أخيرا وهو يترنح فأسرعت عنده وساعدته على المشي وهي تسأل عن حاله وكيف أصبح ويبدو أن حاله ما تزال سيئة مما جعلها تصطحبه للحافلة لتأخذه لمنزله الذي أخبرها عن عنوانه والحافلة المؤدية له.
أثناء ركوبهما الحافلة كان منهكا جدا لدرجة أنه لم يعد قادرا على الاستقامة فرمى برأسه على كتفها وهو يتنفس بعمق، ومع كل لحظة تشعر فيها بدفئ جسمه كان قلبها ينتفض خوفا وتوترا، ولرأفتها بحاله لم تنبس بشيء بل التزمت الهدوء متمنية أن تصل الحافلة بسرعة.
وصلا أخيرا لوجهتهما فأنزلته من الحافلة وهو متكئ على كتفها يشهق ويزفر بقوة ثم أدخلته منزله ووضعته على سريره، وبسرعة أحضرت له كوب ماء وحاولت جعله يشربه، لاحظت كم كان يتعرق وشعرت بخوف وقلق أكبر فأحضرت منديلا وماءً باردا ثم مسحت على جبهته بهدوء ورقة إلى أن هدأ أخيرا وغفى بعد إنهاك طويل دام لساعتين.
من شدة مللها ذهبت للتجول في المنزل وأثناء مرورها بخزانة الكتب لاحظت مجسما على شكل كرة زجاجية بداخلها ماء شفاف ولعبة صغيرة على شكل تمثال الحرية وكل ما تم خضها يتحرك البريق الذي داخلها ليبدو كالثلج المتساقط، كانت تلك هديتها له بآخر عيد ميلاد له قبل أن ينفصلا، علاقتهما لم تتجاوز السنة من عمرها لكن ذكرياتهما معا لا تعد ولا تُحصى.
لم تدرك كمية حزنها إلا عندما أحست بدمعة ساخنة تسيل على وجهها فمسحت أثرها بسرعة ونظرت لنفسها في زجاج الخزانة لترى إن كانت احمرت عينيها ثم ذهبت للمطبخ لتحضِر له شيئا مغذيا يأكله.
فتحت الثلاجة وأخرجت بعض الفراولة والموز وهمت بغسلهما وتقطيعهما دون أن تعي أن إسلام واقف عند الباب يراقبها، وبالصدفة عطس فانتبهت له وابتسمت بتكلف وقالت:
-«ها أنت ذا! كيف أصبحت الآن؟»
أجابها بينما يدخل المطبخ مترنحًا:
-«بخير»
-«عد لسريرك وسأحضر لك الفاكهة لتأكلها وستتحسن أكثر إن شاء الله»
-«لا تعامليني وكأنني مريض حقا، أنا بخير، نوبات ورم الدماغ مؤقتة وتزول بسهولة وليست كالحمى والأمراض الأخرى طويلة الأمد»
-«لا تتفلسف علي وتتظاهر أنك طبيب نفسك، عد لسريرك»
لحظة صمت رهيبة عمت المكان مما جعل الجو مشحونا بالطاقة السلبية، بعد أن حدقا ببعضهما لفترة نبس إسلام بحزن قائلا:
-«أنتِ حتى لم تسأليني لِمَ»
-«لم أفهم»
-«لم تسأليني لِمَ كذبت، ولِمَ تركتكِ تنفصلين عني دون جدال في البداية، ولِمَ كنت ذلك الوغد الحقير معك»
لم ترد على سؤاله بل اكتفت بتقطيع الفواكه في الطبق متجاهلة ما قاله مما جعله يتجه ناحيتها ويمسكها من كتفيها ويهزها قائلا بحشرجة:
-«لماذا لم تستمعي لجانبي من الحكاية؟ ولماذا يوم اتصلت بكِ بعد انفصالنا بسنة لأشرح لكِ ما حصل أغلقتِ الهاتف في وجهي؟ ويوم طلبت يدك للزواج لماذا قلتِ أننا لا نستطيع العيش في عائلة واحدة فنحن مختلفان؟»
أبعدت ذراعيه عنها بهدوء مع احتفاظها بملامح وجه باردة وقالت:
-«رجاءً لا تخلط العمل بعلاقتنا الشخصية، نحن هنا لنعمل، رجاءً»
-«أفهم ذلك لكن...أريد أجوبة»
-«ولِمَ تريدها؟ هل لديك أمل أن نعود؟ هل فكرت يوما بأننا بعد ثلاث سنوات من الفراق سنعود ونحب بعضنا كما لو أن لا شيء حدث؟ لا أعرف بشأنك لكن من ناحيتي فثلاث سنوات كافية لمحو الحب من جذوره مهما كان عميقا»
صدمه كلامها فاستسلم للأمر الواقع وقال بهدوء:
-«لا لم أقل ذلك، معكِ حق في كل ما قلتِ، لقد استأصلنا الحب من جذوره ولا داعي لفتح الموضوع مجددا، كنت فضوليا تجاه الأمر لكن أظن أنه غير مهم»
ثم صمت لفترة وقال:
-«دعي عنكِ الفواكه وتعالي، لننهي ما بدأناه، لنكتب ثاني جزء من روايتي»
-«وهل أنت بخير؟!»
-«أجل»
لحقت به ليجلسا على السرير وأخرجت دفترها وقلمها من حقيبتها ثم قالت:
-«احكي لي ما بجعبتك وسأسجل رؤوس أقلام فقط»
-«لقد توقفنا في فترة المراهقة، حسنا، هناك الكثير لقوله حول الأمر، مراهقتي كانت صعبة، إنها بداية إدراكي للعالم، تخيلي أن تفتحي عينيكِ على العالم لتدركي أن والدتكِ كانت فاسقة في السابق وأنجبتكِ من خلال الفُسق، ماذا كانت لتكون ردة فعلك سوى الصدمة والجنون؟ وكانت كذلك بالنسبة لي، ترعرعت في ظروف مرعبة، حقائق صادمة، تهميش، تفضيل لإخوتي علي، تنمر من قبل الجميع بسبب ذنب لم أُذنبه، كل هذه الأمور كانت لتجعل مني مريضا نفسيا»
بينما الأخرى تستمع له كان قلبها يتمزق عليه خاصة مع إحساسها بالقهر في نبرة صوته، ثم أكمل الكلام قائلا:
-«بحكم البيئة الظالمة التي تربيت فيها فقد كنت أغرق حرفيا، قررت أن أعيش كما أريد وأحذف مصطلح العائلة من حياتي، لقد بدأت التدخين في سن الثالثة عشرة وتعاطيت الكحول في سن الخامسة عشرة، وأحيانا كثيرة كنت أفكر بتدخين الحشيش واللجوء للمخدرات والمواد الممنوعة قانونيا لإسكات ضُرمة الألم في داخلي، هذا لو أتينا للجانب الصحي والنفسي، أما بالنسبة للجانب المالي فقد كنت عالة على المجتمع بالمعنى الحرفي، لقد اخترت لحياتي نمطا فاشلا واكتفيت بأخذ المال من والداي والنوم طوال اليوم، بينما الليل كنت أقضيه في الحانات الليلية والحفلات الصاخبة أحتفل مع الفاسقين وأتعاطى الكحول لحد الثمالة...»
توقف عن الكلام بعد أن رأى كمية الدموع التي بللت خد بثينة بالفعل فابتسم وقال:
-«لا تبكي»
-«أنا حساسة مؤخرا، يبدو الأمر كمسلسل حزين»
انفجر ضاحكا وقال:
-«ألم تقولي أن قصة حياتي قد لا تكون بالأمر الجلل لكتابة رواية عنها؟»
-«وما أدراني بكل هذه التفاصيل! أكمل أكمل»
-«بالنسبة لجانبي العاطفي فكان أسوأ بكثير مما توقعين، لقد أمضيت فترة مراهقتي أقفز من فتاة لفتاة، كنت أواعد عشرين فتاةً دفعة واحدة وأيٌ منهن لم تكتشف خداعي لها، أحيانا كنت أستغلهن عاطفيا وماليا بحيث أخبرهن بأنني بحاجة للمال لحالة طارئة ثم آخذه وأختفي دون رجعة، نعم لهذه الدرجة كنت حقيرا ومستغلا»
عند هذه الجزئية شعرت بعدم الراحة وصارت يدها ترتجف بينما تسجل على الدفتر، حقا من المزعج معرفة الماضي العاطفي للشخص الذي أحبته بشغف، حتى لو كانا قد انفصلا وعفى الزمن عن علاقتهما لكن الأمر ما يزال مُربكا ومؤلما، ثم أكمل إسلام الكلام قائلا:
-«ثم تعرفت على أول حب لي، كانت مراهقة تصغرني بسنتين، رغم انحرافي وعدم نضوجي لكنها أعادتني نوعا ما للطريق الصحيح، لقد انتشلتني من الوحل بغمضة عين وأعادت لي إحساس أنني بشر طبيعي يستحق أن يقدر نفسه ويثق بها ويعيش باستقامة، أيامي معها كانت لحظات من النعيم، أغدقتني بالحب والحنان الذي لم أحظى به من أهلي، لكن...»
قاطعته بثينة وهي تغلق الدفتر بقوة قائلةً بصوت حاد:
-«لنتوقف هنا قليلا ونعد للجزئية السابقة، هل حقا تلاعبت بمشاعر الفتيات واستغللتهن عاطفيا وماليا؟»
لم يكن هذا الأمر هو ما أغضبها بل حديثه عن حبه الأول، أثناء علاقتهما كانت تعاني ملايين المشاكل بسببها فقد كانت تشك دائما أنه مازال يحبها كونها أول علاقة مرت بحياته، ولطالما أحست بغيرة قاتلة وشَكٍ وخاصمته لأيام لمجرد ذكرها أو الكلام عنها.
تفاجأ الآخر من ردة فعلها فقطب حاجبيه وقال:
-«نحن نتحدث عن السابق، السابق يا فتاة، السابق»
ردت عليه بغضب:
-«الماضي يبقى جزءا من حياتك ويجب عليك أن لا تفتخر به بل أن تدفنه في طي النسيان للأبد»
-«لماذا كل هذا الغضب بخصوص الماضي خاصتي! ما بالك؟ لقد تجاوزنا تلك النقطة بالفعل فلماذا تعودين إليها الآن؟»
-«لأن هذا ما يجب فعله، علينا تغيير المنكر بلساننا»
-«أي تغيير يا فتاة! القصة مر عليها 9 سنوات»
-«لا يهمني حتى لو انطوى عليها قرن كامل، ما يزال ما فعلته خطئًا فادحا لا يمكنني التساهل...»
قاطعهما رنين جرس الباب فالتزما الهدوء ونظرا لبعضهما بصدمة ثم توجه إسلام نحو الباب ونظر عبر الفتحة فانصدم بوجود أمه واقفة عند الباب وركض نحو بثينة يتكلم هامسا:
-«إنها والدتي»
-«يا إلهي! ستظن السوء بنا»
-«اختبئي في الحمام بسرعة»
أدخلها للحمام وأغلق الباب ثم فتح على والدته فدخلت المنزل بكل كبرياء ومشية واثقة فرحب بها ولكنها لم تهتم البتة وقالت:
-«لماذا تغيبت عن العمل اليوم دون إذن؟»
تذكر أن لديه عملًا وكان من المفروض أن يتجه هناك قبل ساعات لكن بسبب مرضه أتت به بثينة للمنزل فحاول تدارك الأمر قائلا:
-«آه! واجهتني ظروف، سأذهب فورا»
-«هل أنت وحدك بالمنزل؟»
-«بلى»
-«وكأنني سمعتك تتحدث حين كنت عند الباب»
-«أوه! كنت أتحدث على الهاتف»
-«حسنا»
نظرت إليه من رأسه لأخمص قدميه بنظرة باردة وقالت:
-«اهتم بصحتك قليلا فقد فقدت الكثير من الوزن، ألا تأكل أبدا؟»
-«بسبب العمل يا أمي، بسبب العمل»
-«أي عمل! أنت بالعادة تتغيب كثيرا فما الداعي لهذا العذر الواه؟»
-«حسنا حسنا، أعاني من فقدان الشهية لا غير»
-«زر طبيبا ليعطيك دواءً للشهية، لا تبقى هكذا فمنظرك مرعب مع فقدان الوزن، من الأساس كنت نحيلا والآن صرت أشبه بنكاشة أسنان»
-«حاضر أمي»
-«وأيضا صبغة شعرك جميلة»
-«شكرا!»
استدارت وغادرت وحين أغلقت الباب خلفها خرجت بثينة من الحمام وحدقت به بحزن، كانت لديها الكثير من الأسئلة التي تريد توجيهها له بخصوص والدته ولكن غضبها منه منعها من فتح فمها بحرف لذا قطبت حاجبيها بانزعاج ثم قالت:
-«انتهى عملي معك اليوم، أراك في يوم آخر»
-«حسنا، اهتمي بنفسك، أنا أيضا سأذهب للعمل فورا فغيابي سيؤثر على الأوضاع سلبا»
لم ترد عليه بل وضعت أغراضها في حقيبتها وغادرت مسرعة وبعقلها ألف سؤال وسؤال، بدا الأمر محيرا بالنسبة لها فمن فحوى كلامه مع والدته يبدو أنها لا تعلم بشأن مرضه البتة، ربما لم يخبرها وربما يخطط لإخبارها في القريب العاجل، هذا أمر لا يجب عليها التدخل فيه.
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:18 pm عدل 4 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
جلست بثينة في غرفتها تقلب الإنترنت بحثا عن شيء تسلي به نفسها ومنه تستنتج فكرة لرواية جديدة، كان كل شيء مملا وغير ملهم بالنسبة لها، حتى الرواية التي وعدت حبيبها السابق أن تكتبها له لم تعد تستطيع المواصلة فيها فهي تجرحها وتحطمها.
نظرت للحقيبة الملقاة على السرير وتنهدت بعمق ثم توجهت عندها، أخرجت دفتر ملاحظاتها وارتجفت أواصلها وهي تحدق به، فتحته على آخر صفحة توقفت فيها فرأت أنها لم تكمل كتابة ما أخبرها به بسبب شجارهما، بل هي لم تكتب أي شيء عن حبيبته السابقة لأنها تكرهها كرها جما.
صارت تطوف بالغرفة ذهابا وإيابا وتفتح الدفتر تارة وتغلقه تارة أخرى حين تتذكر ألمها ومعاناتها بسبب تلك الإنسانة، نعم لقد كانت واحدا من الأسباب الكثيرة التي جعلتهما ينفصلان سابقا، تلك الفتاة بقيت تنكس عليها حياتها حتى بعد انفصالها عنه ودخوله في علاقة جديدة مع بثينة.
في النهاية سمعت الكثير من الإشعارات في هاتفها فتوجهت نحوه ركضا وبالفعل كان هو الشخص الذي تظنه، إنه حبيبها السابق يطلب منها الرد عليه بعد أن تجاهلته لساعات.
قطبت حاجبيها وتجاهلته ثم سألت نفسها مرارا وتكرارا إلى متى عليها أن تعاني بسبب ذلك؟ من المفروض أنها نسيت الموضوع ومضت في حياتها قدما، لم تكن تعلم أنها ما تزال تشعر بالغيرة من تلك الإنسانة حتى بعد سنوات طويلة، بدأت تدرك أنها ما تزال واقعة، وما تزال مولعة به.
احتاجت أياما لكي تنسى الموضوع وبالطبع طوال تلك الأيام الطويلة كانت رسائله تلازمها مرارا وتكرارا، فلم ينفك يوما عن إرسال الرسائل لها وبطبيعة الحال كانت مستاءة فتجاهلته فترة من الزمن حتى تصفي ذهنها وتتخلص من غيرتها تلك.
ذلك اليوم وبينما هو في عمله مشغول البال يحدق بالهاتف وبالمحادثات التي جرت بينهما فإذا بها تفاجئُه برسالة كتبت فيها: «مساء الخير، هل تحب تسلق الجبال؟»
قطب حاجبيه ورد عليها: «بعد كل هذا الغياب وكل تلك الرسائل مني أهذا ما تردين به!»
أجابته: «يبدو أنك لا تريد، مع السلامة»
وبسرعة كتب لها: «انتظري، نعم أحب تسلق الجبال، ما المطلوب مني؟»
كتبت له: «أخطط اليوم لزيارة جبل، لا أعلم لِمَ، فجأة استيقظت ورأيت الجبل بين عيناي»
رد عليها: «حسنا فهمت، سأقابلك بعد العمل، جهزي أغراضك»
رغما عنها ظهرت ابتسامتها ثم نهضت وجهزت أغراضها لتذهب هناك، كل ما أخذته هو بعض الطعام وقبعة ونظارات شمسية وثياب دافئة في حال تغير الجو فالطقس الربيعي غير مؤتمن.
بعد انتهائها ذهبت لانتظاره أمام المحطة فتوقف أمامها بسيارته وصعدت معه وبمجرد صعودها رمقها بنظرة حادة تنم عن انزعاجه وتحدث قائلا:
-«ظننت أن مكروها أصابك، لماذا لا تردين على رسائلي؟»
تجاهلته ووضعت أصابعها على مذياع السيارة تحاول تشغيله وقالت بلا مبالاة:
-«أحب سماع الأغاني أثناء الطريق، كيف يشتغل هذا الشيء؟»
لم يهتم لكلامها ووضع يده على يدها يبعدها عن المذياع فتفاجأت ونظر كل منهما في عيني الآخر، كانت تلك لحظات مرعبة بالنسبة لها فأصعب شيء أن تواجهه وتنظر في عينيه لذا شعرت بالخوف وأبعدت نظرها وسحبت يدها بعنف وقالت بينما تنظر للنافذة خارجا:
-«دعني وشأني رجاءً، للناس ظروفهم، وأيضا لست مجبرة لتبرير أي شيء لك، أنا حرة، متى ما أردت الرد سأرد، لا تنسى أن لا شيء يربطنا»
هز رأسه بهدوء ثم شغل محرك السيارة متوجها لمنطقة جبلية خارج المدينة، كان الوقت ما قبل الغروب بدقائق وهذا ما جعل الجو شاعريا وجميلا.
عندما وصلا لجبل معين، ليس بعالٍ ولا منخفض، صرخت عليه بأن بتوقف هناك، وعندما ركن سيارته بجانب الطريق نزلت أولا وركضت لتصعد لأعلى بكل حماس.
لحق بها بهدوء وتململ حتى بلغا قمة الجبل فوجدها تنظر للشمس وهي تغرب وابتسامتها الجميلة لا تفارق ثغرها.
-«لكنكِ تقومين بشوائنا أيضا في فصل الصيف، رجاءً ارحمينا»
ثم صرخت الأخرى:
-«هو أصلا لا يغادر سيارته لذا دعكِ منه، نحن نحبك، ونريدك أن تسطعي علينا كل صباح»
انفجر من الضحك لوقت طويل بسبب ما قالته ثم صمت فجأة وتغيرت ملامح وجهه حين عرف ما تحاول فعله لذا دمعت عيناه، لقد أخبرها في وقت سابق أن من أحد الأمور التي يود فعلها قبل موته هي الذهاب لجبل والصراخ بأعلى صوته وها هي الآن تحقق رغبته.
شعر بالذنب الشديد على كل ما بدر منه ناحيتها فهي رغم كل ذلك تحاول مساعدته جاهدة لذا صرخ بأعلى صوت:
-«أيتها الشمس، ماذا يفعل الإنسان ليصلح خطأه؟ هل من أمل ولو طفيف بأن الناس الذين آذيناهم يستطيعون مسامحتنا؟ أنا خائف من أن أموت وهم غاضبون علي، كيف أصحح أخطائي؟ رجاءً أريد حلا، أنا أكاد أختنق هنا...»
فجأة صمت بعد أن ظهرت حشرجة في نهاية حديثه، كان حاله يمزق قلب بثينة وشعرت أنها المقصودة بكلامه، لكن لم تستطع فعل شيء سوى التربيت على كتفه لمواساته.
ومجددا صرخ بأعلى صوته مع حشرجة قاتلة:
-«لقد أمضيت حياتي بأكملها وأنا أعاني، حتى في موتي سأعاني، ليس بسبب المرض، بل بسبب الندم، يا ليتني كنت جيدا مع الآخرين، يا ليتني أستطيع تصحيح أخطائي، لكن كيف؟! لن يسامحني أحد، حتى هي لن تسامحني»
صمت لبعض الوقت ثم عاد للصراخ قائلا:
-«إنه لمن المؤلم حقا أن يفعل الإنسان كل ما يريده في حياته ويظن أنه لن يموت أبدا، الآن أصبح كل شيء واضحا، نهايتي واضحة، أنا أستحق، ربما هذه المعاناة الجسدية والنفسية ستكفر القليل من ذنوبي»
ومع صرخاته وألمه الذي يتعالى أرادت أن تعانقه وتخفف عنه لكن ما الجدوى من ذلك وهما الآن مجرد غريبين، اكتفت بالاستماع إليه والتربيت على كتفه إلى أن انتهى من الصراخ ثم جلست بجانبه على أعلى الجبل وساقيهما يتدليان من صخرة كبيرة ثم أخرجت الطعام من حقيبتها ومدت يدها تقدمه إليه لكنه نظر إليه بنظرة باردة وعاد للتحديق بالشمس وهي تغرب.
ومجددا حاولت تقريب الطعام منه أكثر لتلفت انتباهه لكنه هذه المرة أبعده بيده وتحدث قائلا ببرود:
-«لست جائعا، وإن تساءلتِ عن السبب فهو أنا، أشعر أنني عائق في طريق نفسي، أنا شخص مذنب، أود الاعتراف بشيء»
أجابته بينما تعيد الطعام للكيس وتنصت باهتمام:
-«تفضل»
-«أظن أنني أدفع ثمن أخطائي معك، في السابق لم أكن أؤمن أن الدنيا تدور، لكنني الآن أعيش الأمر برمته، ما رأيك؟»
-«غير صحيح»
-«بلى، لقد استجاب الله لدعواتك»
-«ومن أنا ليستجيب لدعواتي؟! مجرد فتاة عادية»
-«دعوات المظلوم مستجابة»
-«هذا لو كنت مظلومة حقا»
نظر إليها باهتمام وتعابير وجهه مائلة إلى الاستغراب وقال:
-«ما المقصود بكلامك؟»
-«ليس هناك أحد مظلوم، كلانا تخاصمنا وكلانا كنا نظن أن الطرف الآخر هو المخطئ، لذا إياك القول وأنني مظلومة، وأيضا أنا لست حاقدة عليك فلا تأتي على هذه السيرة مجددا»
أومأ لها برأسه أنْ نعم بعد أن فهم ما قالته ثم ابتسم وقال:
-«شكرا لك، لطالما تمنيت الصراخ على قمة جبل وفي مكان فارغ كهذا، أعلم أنكِ فعلتِ ذلك من أجلي لذا شكرا جزيلا»
-«العفو رفيقي»
-«رفيقك!»
-«أقصد زبوني»
-«غيرت رأيي، كلمة رفيقي أحسن»
انفجر كلاهما من الضحك ثم بقيا يشاهدان منظر الغروب إلى أن اختفت الشمس في الأفق وعم هدوء وظلام طفيف ثم عادا للمدينة لتناول العشاء.
بينما يجلسان في المطعم وضعت بثينة يدها على خدها واتكأت بها على الطاولة وحدقت بإسلام بابتسامة هادئة وجميلة فتحدث قائلا:
-«أعلم أنني وسيم فلا تحدقي بي هكذا»
قطبت حاجبيها بانزعاج وقالت:
-«ما أنذلك! كنت أنظر لشعرك، لونه جميل»
-«ماذا عن روايتي؟»
حين ذكر أمر الرواية شعرت الأخرى بعدم الارتياح لكن عليها مواجهة الأمر فورا واختيار قرار سليم فتحدثت قائلة:
-«سنكملها بعد العشاء، مازلت أريد تناول الطعام»
أخذت دفتر الطعام وصارت تقلبه متظاهرة أنها تبحث عن شيء وهي تقول:
-«أريد تحلية بالليمون، ترى هل لديهم؟»
ابتسم لها الآخر بتكلف وفجأة شعر برأسه يدور وبأن الرؤية أصبحت ضبابية وبثقل قاتل في منطقة الدماغ مما جعله يضع يده على رأسه ويغمض عينيه بقوة.
فجأة سقط أرضا بكرسيه وحاول النهوض ولكنه شعر بالدوار يسحبه للأسفل ويفقده وعيه، ركضت بثينة نحوه وحاولت مساعدته على التمدد على الأرض ثم ركضت النادلة نحوهما وقالت:
-«هل هو بخير؟ هل أتصل بالإسعاف؟»
قالت بثينة بحشرجة:
-«لا عليك، إنها أعراض السرطان، لن تفيده المشفى بشيء، فقط لننتظر أن تزول عنه»
بينما هو ممدد على الأرض شعرت بثينة بيد تتسلل نحوها وتمسكها، كانت تلك يده التي تحاول التشبث بها بقوة مع كل عصرة ألم تساوره، ومع شعورها بالشفقة عليه وضعت رأسه في حضنها وبقيت ممسكة بيده بقوة لعله يعود لوعيه بسرعة.
مرت نصف ساعة تقريبا وهو على نفس الوضع المزري إلى أن رن هاتف بثينة وكانت المتصلة والدتها التي ساورها القلق بشأن عدم عودتها للمنزل باكرا.
تنهدت وفتحت الخط ثم أخبرتها أن صديقتها مريضة وتم نقلها للمستشفى وهي تنتظر مجيء أهلها لكي تغادر، ورغم أنه عذر غريب وغير معتمد من قبل لكن والدتها صدقتها.
عاد إسلام لوعيه أخيرا ولكن ما يزال يشعر بالدوار لذا أخذته بثينة لمنزله وهو متكئ على كتفها وأثناء دخولها للمنزل نسيت الباب مفتوحا خلفها.
حاولت أخذه لسريره لكنه توقف عن السير في وسط غرفة المعيشة واستدار نحوها ووضع كلتا ذراعيه حولها لكي لا يسقط ونظر في عينيها بتوتر بينما الأخرى تكاد تموت من الخوف والخجل، ثم قال ببرود:
-«لماذا لم تسأليني؟»
قطبت الأخرى حاجبيها وردت قائلة:
-«عن ماذا؟»
-«عن السبب الذي جعلني أكذب عليك وأجرحك»
أحنت رأسها بإحباط وتجاهلت كلامه ثم أضاف:
-«الحقيقة أنني منزعج لأنكِ لم تسأليني عن الموضوع ولم تسمعي تبريراتي»
أجابته بنبرة حادة:
-«ولماذا تريدني أن أسمع تبريراتك؟ ما الفائدة؟ هل سيتغير شيء؟ هل ستعود الأمور لنصابها إن عرفت؟»
-«أعلم أن الجواب لا، لكن ألم تشعري بالفضول ولو لمرة لمعرفة الحقيقة؟»
-«أبدا، لا أهتم، فتلك العلاقة لم تكن مهمة لتلك الدرجة، لم يكن هناك احترام ولا وفاء، ولهذا يئست منها»
صمت كلاهما لبعض الوقت وكان إسلام يترنح يمينا وشمالا بسبب تعبه، فجأة وهما على تلك الوضعية قريبان جدا من بعضهما سمعا صوت أحدهم يتحدث من داخل الغرفة، وحين التفتا وجدا والدة إسلام تنظر إليهما بصدمة.
انتفضت بثينة من الفزع ونظرت لإسلام وقد كان ما يزال متعبا ومتكئا على كتفها ويبدو أنه يتظاهر بكونه بخير أمام والدته، كان عليها الاختيار بين الابتعاد وتركه يسقط وإظهار مرضه لوالدته وبين البقاء على ذلك الحال مانحة كتفها له ليستند عليه وتحمل العواقب.
تحدثت والدته بعد أن بقيت مصدومة لفترة:
-«من هذه؟!»
أجابها بتوتر بينما يحاول التماسك:
-«أعرفك على...إنها...صديقة لي»
-«صديقتك تمسك بك بهذه الطريقة؟»
نظرا للوضعية التي كانا فيها فقد وقعا في مشكلة كبيرة، ثم قالت الأم بنبرة باردة:
-«لِمَ لمْ تخبرني عنها؟ سألتك عدة مرات إن كان لديك فتاة في حياتك لكنك لم تجبني، والآن بعد أن أمسكتك بالجرم المشهود هل ستنكر أيضا؟»
-«أمي أنا حقا...هي ليست...أعني...»
تدخلت بثينة فورا قائلة:
-«عفوا سيدتي، آسفان لإخفاء الأمر عنك لكن علاقتنا جديدة، لكن لم أعلم أنكِ مهتمة للأمر»
-«طبعا علي أن أهتم فهذا ابني، من تكونين؟»
-«أدعى بثينة، سيدتي»
التفتت الوالدة نحو إسلام وقالت:
-«ومتى ستتقدم لخطبتها؟ تعلم جيدا أن المواعدة شيء غير مستحب في عائلتنا، لو أردت فتاة فتقدم لها مباشرة، جيد أن أسمع أن هناك أملا يرجى منك بعد رفضك لكل الفتيات اللائي عرضتهن عليك»
رد عليها إسلام:
-«أود ذلك يا أمي، لكنها مازالت بالجامعة»
تفاجأت بثينة مما سمعته ونظرت له باستغراب، ثم قالت والدته:
-«وماذا لو كانت كذلك؟ يمكنك التقدم لها الآن والزفاف سيكون لاحقا»
بدا الوضع غريبا هناك ومعقدا مما جعل إسلام يحاول إغلاق الموضوع بطريقة ما فتحدث قائلا:
-«أمي، سنتحدث بالموضوع لاحقا، الآن علي إيصال بثينة للمنزل فوالداها قلقان عليها»
-«حسنا، سنتكلم غدا في العمل، وإياك التغيب مجددا»
نظرت لهما لمرة أخيرة وقطبت حاجبيها وقالت:
-«هل ستبقيان تتعانقان هكذا؟»
ابتسم إسلام بتكلف وقال:
-«أجل...أقصد لا...تصبحين على خير أمي»
هزت كتفيها بقلة حيلة ثم غادرت وأغلقت الباب وفي تلك اللحظة بالذات نظرت بثينة نحوه بتوتر وساعدته آخذة إياه نحو سريره ليستلقي عليه وقالت:
-«لماذا لم تخبرها؟ أليست الأوْلى بأن تعرف؟»
-«لا أريد، ولماذا عسايا أخبرها؟ هي لا تهتم لأمري حتى»
-«هذا ما تظنه، توقف رجاءً، أخبرها بالحقيقة، لا تجعلها تتحسر من بعدك»
-«لا تقلقي فهي لن تتحسر، لقد أنجبتني بالخطأ، بالعكس سيسرها التخلص مني»
تأفأفت الأخرى بإحباط وقالت:
-«لا تكن جاهلا، مهما يكن فأنت قطعة منها وقد ربتك وصنعت منك رجلا تفخر به...»
قاطعها قائلا:
-«لا يهم، لا أريد الخوض في النقاش، ما أريد معرفته هو لماذا قررتِ الاعتراف بأنكِ...بأنكِ...حبيبتي؟»
توترت الأخرى وصارت تلعب بأصابعها وقالت:
-«الحقيقة...لم يكن لدي حل آخر، كيف يمكنك تفسير رؤيتك لابنك يعانق فتاة في منزله في الليل؟»
انفجر إسلام ضاحكا مما جعلها تضحك هي الأخرى، ثم قال:
-«معكِ حق، إنه موقف محرج، وماذا أخبرها لاحقا؟»
-«لا تخبرها بشيء، دعها وستنسى الموضوع، لا أعتقد أنني تلك الإنسانة التي يتذكرها الجميع دائما»
-«بل أنتِ كذلك»
نظر كل منهما في عيني الآخر ثم ابتسمت له بتكلف، ولتخرج من الوضع المحرج حاولت تغيير الموضوع فقالت:
-«هل تريد أن نكمل كتابة الرواية؟»
-«بالطبع، أتحرق شوقا لذلك، لقد وصلنا للأجزاء المهمة التي أنتظرها بشوق»
ابتسمت له بتكلف مجددا وظنت أن ما يقصده هو قصته مع حبيبته السابقة، لكنها قررت تخطي الأمر وأحضرت دفترها وقلمها من حقيبتها وجلست مقابلة له.
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:19 pm عدل 5 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
موضوع: رد: رِوَايَةُ خَلِّدِينِي!! (بِقَلَم : بُثَيْنَة عَلِي) السبت يونيو 11, 2022 11:22 am
رواية خلِّديني : الفصل السادس
في منزل إسلام جلس ذلك الأخير معتدلا على سريره وبجانبه بثينة التي تستعد للكتابة على دفترها ثم قالت بهدوء:
-«يمكنك البدء، لقد توقفنا في قصصك مع فترة المراهقة»
-«حسنا، ما أتذكره أنني كنت جانحا كالعصابات المكسيكية، ارتكبت ملايين الأخطاء وتبعت أصدقاء السوء، بل دعينا نقل أنني كنت صديق سوء»
-«ثم؟!»
-«وكما ذكرت سابقا لم تسلم أي فتاة مني»
-«أجل، تحدثنا عن الأمر مسبقا، وما التالي؟»
-«بعد سنوات من اللهو والخداع والقفز من فتاة لأخرى ظهرت فتاة في حياتي غيرت مجراها تماما»
بمجرد ذكره للأمر اعتصر قلب الأخرى ألما وحاولت كبت غضبها وانزعاجها وتظاهرت أنها تسجل على الدفتر، ثم استأنف حديثه قائلا:
-«بعد ظهورها عرفت المعنى الحقيقي للحب الأول، الوفاء، السعادة والدفء الذي لم أجده في أسرتي، لقد احتوتني بشكل كامل وعلمتني أنني أستحق أن أكون محبوبا، مهما تحدثت عن فضلها علي فلن أستطيع إعطاءها حقها»
بينما يتحدث كانت بثينة تضغط على القلم فثقبت الورقة التي تكتب عليها، كل هذا بسبب غضبها المكبوت وانزعاجها.
ومجددا أردف القابع أمامها:
-«كان كل شيء جيدا وكانت تحبني بشدة وتخاف علي حتى من نسمة الهواء...»
قاطعته وهي تصر على أسنانها بقوة وتحاول تمالك نفسها:
-«فهمنا كم كانت تحبك، التالي»
انفجر ضاحكا وقال:
-«تعلمين تكملة القصة، لقد انفصلت عنها»
-«لا أعرف تفاصيل أكثر، أخبرني عنها»
-«امممم حسنا، لقد كان كلانا في سن صغيرة ورغم ذلك قامت عائلتها بتزويجها لشخص آخر، ورغم أنها مخطوبة فقد كانت تواصل الاتصال بي والحديث معي، لكنني طلبت منها التوقف، لم أستطع التحدث مع خطيبة شخص آخر. وعدتني أنها ستفسخ خطبتها معه بأي طريقة وتعود لي، لكنها لم تعد للأسف، بقيت أنتظرها سنوات والشوق يأكل قلبي ولكنها لم تستطع التحرر منه، مؤسف حقا»
لم تسجل بثينة أي حرف مما قاله بل بقيت تمرر القلم على الورقة متظاهرة أنها تكتب، لم تستطع التركيز على الكتابة مع ذلك الكم الهائل من الغيرة، وفي النهاية ابتسمت ابتسامة جانبية ساخرة وقالت:
-«يبدو من كلامك أنك مازلت متأثرا بما حصل»
-«ليس تماما، الأمر محزن حين أفكر في كم كان حظي عاثرا بحيث لم أستطع الحفاظ على أشخاص يريدهم قلبي بشدة»
-«حسنا فهمت وسجلت كل شيء، هل تريد إضافة حوادث معينة أو نقاط مهمة؟»
-«لا، لكن مازلت لم أكمل كلامي بعد»
كانت تستشيط من الغضب وتتمنى إنهاء الموضوع لكن تنهدت بقلة حيلة وقالت:
-«أكمل»
-«بعد ذلك الحظ العاثر الذي أصابني خرجت عن السيطرة مجددا ورجعت لكوني ذاك المنحرف الذي لا يهتم لأحد ولا يراعي ضعف أحد، لقد عدت أيضا للعلاقات المؤقتة مع الفتيات وأوقعت العديد منهن، أتذكر أيضا أن هناك فتاة خدعتها لتعطيني مليوني دينار»
-«مليوني دينار! هذا مبلغ كبير! كيف يمكن لفتاة أن تكون غبية وتثق برجل وتعطيه هذا المبلغ! بل ومن أين حصلت عليه؟»
-«لطالما كنت أعرف نقاط ضعف الفتيات ولذلك أحصل منهن على ما أريد ثم أرميهن»
نظرت له بثينة بنظرة حادة كادت تثقبه فشعر بالتوتر وقال:
-«إلا الذي في بالك، لم أفعله، صدقيني، أحب الخداع ولكن ليس بتلك الطريقة»
-«حسنا، وماذا حصل للفتاة؟»
-«جاءت لمنزلي وقامت بعمل فوضى عارمة أسفل البناية التي أسكن فيها وجعلت كل من الحي يعرف بالقصة، لكن والدتي طردتها وقالت أنها تستحق فهي غبية»
-«كنت تعيش مع والدتك ذلك الوقت؟»
-«بلى، أنا لم أنتقل إلا منذ فترة قصيرة»
-«جميل أن تستقل بنفسك، حسنا أكمل»
-«هذه هي مراهقتي وكيف أمضيتها، كانت صعبة نوعا ما، خاصة مع مرض القلب الذي كنت أعانيه»
-«غريب! حياتك مليئة بالمصائب، علي قول الحمد لله مرارا وتكرارا حين أسمع سيرة حياتك»
-«أجل، ولهذا أكرهها»
-«حسنا هذا يكفي لليوم، بقي آخر جزء وسننهيه المرة القادمة»
توتر إسلام وشعر بأن عليه قول الحقيقة اليوم فأردف بصوت هادئ منخفض:
-«لقد وصلنا لأهم جزء في حياتي، دعينا ننهيه اليوم»
-«لا يمكن، لا أستطيع تذكر كل الأحداث وترتيبها في عقلي دفعة واحدة، أعطني حوالي أسبوع لأنقل ما لدي من ملاحظات على حاسوبي ثم بعدها سننتقل لآخر جزء»
-«ولكن الأمر مهم بالنسبة لي، لقد انتظرت طويلا لأخبرك عنه»
-«أرجوك دعني أعمل كما أريد أنا وليس كما تريد أنت، من فضلك، أنا أملك أسلوبا معينا لكي يظهر العمل متقنا على أكمل وجه»
أخفض الآخر رأسه بإحباط وحزن ثم أومأ أنْ نعم ونهض من على سريره وتوجه نحو المرآة يحدق بنفسه وقال:
-«متى ستزول هذه الصبغة؟ صرت أكره النظر لنفسي في المرآة»
-«صبرا، سيحتاج وقتا»
-«أبدو مقززا، ارحميني رجاءً وجدي لي حلا لأعيده للونه الطبيعي»
-«يمكنني صبغه لك، لكنه سيتساقط وتصبح أصلعا كما قالت موظفة صالون التجميل»
-«أريحي نفسك، مازلت أحتاج شعري»
حمل المشط من الدرج وقام بتمريره على شعره لكنه انصدم حين شعر بخصلة كبيرة تنزل مع المشط وتلتصق به، حدق بها بصدمة وصارت يده ترتجف، كان يبدو خائفا من حقيقة أنه سيخسر شبابه عما قريب لذا نزلت دمعة من عينه.
كانت بثينة على مقربة منه تشعر بالشفقة عليه، لم تستطع الصمت أكثر فانطلقت نحوه ووقفت بجانبه وأمسكت يده محاولة التخفيف عنه، ثم أردفت بحشرجة:
-«كل شيء سيكون بألف خير، لا تقلق»
رد عليها ببرود:
-«مستحيل أن يكون أي شيء بخير، لأنني سأموت»
ثم ابتعد عنها وضرب المشط بقوة بالأرض وصرخ بصوت عالٍ:
-«سأموت، أتفهمين؟ أنا سأموت، بضعة أشهر وسأختفي، سأموت، سأموت، سأموت يا فتاة سأموت»
قامت بالتربيت على كتفه وقالت:
-«إن كنت غاضبا أو منزعجا فلا بأس، اصرخ في وجهي وأفرغ كل المشاعر السلبية التي لديك، لكن من فضلك لا تترك الألم والحزن في قلبك، سأسمعك، سأبقى هنا طوال الليل لو أردت ذلك وسأستمع لك، لكن رجاءً لا تكتم في قلبك»
-«توقفي، أنتِ تشعرينني بالذنب أكثر، أنا حقا قمامة، لقد خسرتك في لحظة غباء، ولطالما حاولت مقاومة نفسي حتى لا أخبرك بذلك، مازلت أحبك، رغم أنكِ لم تعودي تحبينني، ورغم أنني أعرف أننا لن نتصالح أبدا ولن نحظى بأيام الحب القديمة ولكنني مصر على طلب الأمر منكِ مجددا»
ثم اعتدل في وقفته وأمسك يدها وتحدث قائلا:
-«بثينة، سامحيني، لنعد لبعضنا وسأعوضك عما حصل»
تجمدت الأخرى مكانها وأغمضت عينيها بعمق تسترجع شتات نفسها الذي تبعثر لأجزاء من شدة التوتر، أفلتت يدها منه وابتسمت بتكلف كما تفعل دائما وقالت:
-«اسمع، الأمر صعب بالنسبة لي أن أعود لك، صحيح أنني لم أعد أحمل أي أحقاد لكنني لا أستطيع، اعذرني، لا يمكنني البتة، ما تم كسره لا يُصلح، ليس خطأك بل خطأ قلبي الذي لا يصدق كلمة "أنا نادم ولن أكررها"، فقط دعنا نبقى أصدقاء رجاءً ولا نفكر بالحب، بالنسبة لي فالحب مات منذ زمن، لا مجال لأحبك مجددا، الحب يأتي مرة واحدة وحين يتم طعنه بالسكين فهو يختفي ويندثر تاركا وراءه الجروح والأحزان»
-«لكن...من خلال مراقبتي لحسابك طوال هذه السنوات عرفت كم أنتِ متسامحة وتؤمنين بطبيعة الإنسان كبشري، بأنه يُخطئ ويندم ويسعى لنيل فرص جديدة»
-«أجبني بصراحة، لو أنني أنا التي خدعتك وخنتك وكذبت عليك فهل تسامحني؟»
خيم صمت قاتل على إسلام وعرف صعوبة الأمر بالنسبة لها ثم تحدث بعد سكون مرعب دام لدقائق قائلا:
-«أنتِ حتى لم تكوني متأكدة أنني خنتك، وقد قلت لكِ مرارا وتكرارا أن تلك الفتاة لا تعني لي شيئا، لماذا لم تصدقيني؟ بالعادة تصدقين كل ما أقوله وتؤمنين وتثقين بي»
-«لم يكن هذا ليحصل لو لم أكتشف أن حياتك كلها مبنية على الأكاذيب، رجاءً لا تفتح الموضوع أمامي مجددا إن كنت تريد إنهاء الرواية بسلام، تعلم أنني غير صبورة بالمرة وقد أقرر التوقف في أي لحظة»
-«ألا تشعرين بالفضول لتعرفي ما حصل بالضبط؟»
-«رجاءً، كلمة واحدة بعد وسأمزق الدفتر وألغي اتفاقنا، رجاءً، لنغلق الموضوع»
أومأ إسلام برأسه أنْ نعم ثم بقي يحدق بالأرضية بشرود، في نفس الوقت جمعت بثينة أغراضها وهمت بالخروج من هناك وهي حزينة شاردة الذهن، وأول ما فعلته أنها عادت للمنزل وقامت بترتيب أفكارها والبدء بنقل كل المعلومات الموجودة على الدفتر إلى الحاسوب، لكن الحقيقة أنها لم تكتب كل الأمور المهمة بسبب غيرتها الشديدة وانزعاجها، لكن لا بأس فكل شيء موجود في دماغها بالحرف الواحد، خصوصا فيما يتعلق بحبيبته القديمة التي تنكس عيشتها وتحبطها كلما تذكرتها.
في يوم الغد توجه إسلام للعمل وجلس في مكتبه يراجع ملفات العمل ويوقع عليها، فجأة دخلت والدته دون استئذان وجلست مقابلا له تناظره بنظرة حادة وقالت:
-«تأخذ معك فتاةً للمنزل في الليل؟ هل تريد أن تجعلها تحذو حذو والدتك؟ دع الفتاة وشأنها إن لم تكن جادا، لا أريد لما حصل أن يتكرر، بالأمس لم أكن صريحة أمامها لكن اليوم سأصفعك لو تطلبني الأمر»
-«من قال أنني لست جادا بشأنها؟»
-«حقا! أنت جاد!»
-«بلى، أكثر مما تتخيلين، لدرجة أنها حب حياتي منذ أكثر من أربع سنوات»
-«من الغريب سماع شيء كهذا من رجل متبلد المشاعر مثلك»
-«لست متبلد المشاعر، أنتِ أساسا لم تجلسي معي ولا مرة في حياتك وتسأليني عن جانبي العاطفي وتتفقدي أحوالي، كل ما تفعلينه هو الصراخ علي وفرض الأوامر»
-«لكنك لم تعد طفلا لأعاملك بدلال»
-«لا أتذكر أنكِ عاملتني بدلال حتى عندما كنت طفلا، وأيضا ليس الأطفال فقط من يحتاجون لنستمع لهم، حتى الكبار لديهم هموم ومشاكل ويريدون الفضفضة لغيرهم»
بعد كلامه هذا أطلق تنهيدة قوية ورغم كل ما قاله تجاهلته والدته وفتحت موضوعا آخر قائلة:
-«تلك الفتاة، متى ستتقدم لها؟»
-«الحقيقة، ربما ليس عما قريب، مازلنا نحتاج وقتا للتعرف على بعضنا أكثر»
-«تارة تقول أنك تعرفها منذ أربع سنوات وتارة لا تعرفها وتحتاج الوقت! ما هذا الانفصام الذي أصابك!»
رد عليها بتوتر بعد أن شعر أنه حشر نفسه في زاوية ضيقة:
-«أوه! نعم أعرفها لكن لم نكن على علاقة إلا مؤخرا، أقصد...هي لم تكن تعلم، كنا مجرد أصدقاء، بصراحة لا أجيد شرح الموضوع»
أدار وجهه للجهة الأخرى وهمس وهو يلعن نفسه:
-«أوقعت نفسي في مشكلة الآن»
تحدثت أمه وهي تقطب حاجبيها:
-«أنت غريب أطوار، لكن هذا لن يغير حقيقة أنني أريد رؤية الخطبة بأقرب وقت، لا تكن رجلا لعوبا، كن واضحا بشأن نفسك»
فجأة انضم الأب للمناقشة بعد دخوله المكتب وقال:
-«سمعت بموضوع الخطبة عن والدتك، ماذا تنتظر؟ عرفنا عليها»
فتح إسلام عينيه من الصدمة بعد أن أدرك وقوعه في مشكلة أخرى وقال:
-«أعرفكم عليها! لكن الوقت مبكر جدا على ذلك»
-«لماذا؟ هل تريد التسلية بها وتركها؟ لا مبرر لرفضك إلا هذا»
-«أبدا، لن أجرؤ على ذلك، أنا جاد بشأنها أكثر مما تتصور»
-«وماذا تنتظر إذًا؟ قم بدعوتها للمنزل فجميعنا نريد رؤيتها، إنه لأمر مفرح أن نراك جادا بشأن فتاة بعد كل ذلك الوقت»
أومأ إسلام برأسه أنْ نعم ثم ضربه بالطاولة بإحباط.
بعد لحظات قالت والدته:
-«قم بدعوتها غدا للغداء، سننتظرك بفارغ الصبر»
رفع يده لأعلى مشكلا أصابعه على شكل علامة إعجاب ثم أخفضها وبدأ يفكر فيما يجدر عليه فعله لحل هذه المشكلة العويصة التي وضع نفسه فيها.
في نفس المساء تواصل مع بثينة وأخبرها أنه أمر طارئ وعليها الحضور بأسرع وقت وبالفعل قدِمت إليه وهي قلقة.
بعد أن جلست معه قالت بقلق:
-«ما الأمر؟ هل هو بشأن مرضك؟ هل أخبروك أنك ستشفى؟»
أجابها بهدوء:
-«ليته كذلك، لكنها كارثة حقيقية وضعت بها نفسي»
-«ما الأمر!؟ تكلم»
-«أهلي يريدون مقابلتك، يظنون أنكِ ستصبحين خطيبتي»
ضربت بثينة رأسها بيدها بإحباط وقالت:
-«هذا فظيع! ظننت أن والدتك ستنسى الأمر أسرع من البرق»
-«للأسف لم يحصل ذلك، بل وأخبرت كل أفراد العائلة عنا، وأبي وأمي مصران على أن أتقدم لطلب يدك بأسرع وقت، في عائلتنا وعاداتنا ممنوع المواعدة السرية، لو أراد الرجل فتاة فعليه التقدم لها مباشرة، أظن أنهم خائفون من أن ينتهي الأمر بأي فتاة مثل أمي...»
فجأة صمت وأغلق الموضوع، وبعد دقائق قال:
-«آسف لإقحامك في هذه المشكلة، سأخبرهم أن كل شيء كان كذبة، آسف لتضييع وقتك»
أراد أن يقوم لكن بثينة أوقفته بينما تبتسم بتكلف وقالت:
-«لا تذهب، لقد رأونا مع بعضنا وهكذا سيسيؤون فهمك، فقط دعنا نمثل أننا معا، أصلا لا حل آخر، وبما أنه مجرد تمثيل فأنا لا أمانع»
تفاجأ الآخر من كلامها ونظر لها بعينين متسعتين وقال:
-«حقا تنوين فعل ذلك من أجلي؟»
-«بلى، لا بأس بالتمثيل لكي لا يزعجك والداك بأمر الزواج، أعلم أنك في وضع لا يسمح لك بذلك، فقط اهتم بمرضك وباقي الأمور ستحل لاحقا»
فجأة أخفض رأسه وبدا عليه الحزن الشديد ثم قال:
-«تمنيت لو أنه لم يكن مجرد تمثيل، تمنيت لو أننا جالسان معا نتفاهم حول خطوبتنا ومقابلتك لأهلي، ما الذي فعلتُه؟! كم أنا شخص سافل، لقد خسرتك بلحظة وهدمت كل أحلامنا وآمالنا معا»
-«كان مقدرا لنا أن نعيش هذه التجربة، لا عليك، الانفصال ليس نهاية الحياة، هناك أمور جميلة أخرى تنتظرنا في المستقبل»
-«أنتِ من ينتظرك المستقبل، بالنسبة لي فلا شيء ينتظرني سوى القبر والكفن»
ثم نهض من كرسيه ليغادر واستدار لكنه توقف لسماع كلامها من الخلف وهي تقول:
-«أنا أؤمن بأن الأطباء ليسوا إله، هناك أشخاص كثر أعرفهم مصابون بالسرطان أعطاهم الطبيب موعدا لوفاتهم ولكنهم انصدموا بشفائهم المفاجئ، السرطان مجرد اختبار لصبرنا وإيماننا بالله، ولو كان إيمانك قويا فالله سيعطيك عمرا جديدا وفرصة جديدة للحياة، لا تيأس، العامل النفسي هو أهم شيء في الشفاء، كن قويا، تحداه»
أظهر لها ابتسامة جانبية ساخرة وقال:
-«أصلا أنتِ لا تعلمين أن وجودك بجانبي حسن من نفسيتي كثيرا، لولاكِ لكانت حالتي أسوأ، شكرا جزيلا على كل شيء، أنتِ أفضل فتاة قابلتها وبقائي معك أكثر يثبت لي ذلك، لكنه في نفس الوقت يحطمني ويزيدني ذنبا على ذنب»
ثم غادر تاركا إياها محطمة القلب، كانت تود بشدة إخباره كم تحبه، لكن كبرياءها وقلبها المنكسر يقفان عائقا في طريقها.
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:20 pm عدل 5 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
وقفت بثينة أمام المرآة تمشط شعرها وتقوم بترتيب مظهرها الفوضوي بعد استيقاظها من النوم، الساعة الآن هي العاشرة وقد تأخرت عن موعدها مع عائلة إسلام وهذا أمر محرج.
وبسرعة سرحت شعرها ووضعت القليل من مساحيق التجميل مع أنها لا تضعها في العادة، لكن كونها معزومة للغداء مع عائلة الرجل الذي تحبه فعليها أن تكون بأحسن مظهر.
ارتدت أيضا ثوبا أبيض مزينا بالورود الحمراء كانت تحتفظ به للمناسبات الخاصة فقط، وارتدت حذاءً بكعب عالٍ.
بعد أن انتهت من التجهز وقفت أمام المرآة لتنظر لنفسها وهي تلتف محاولة استعراض مظهرها وقالت بثقة:
-«مذهل! أبدو أنثى زيادة عن اللزوم»
قهقهت على نفسها من سخافة الوضع ثم حملت حقيبتها الجديدة وتوجهت نحو الباب وفتحته ببطء، أخرجت رأسها فقط وصارت تنظر يمينا وشمالا ثم زحفت على أطراف أصابعها متجهة نحو باب الخروج لكن صوت صرخة والدتها من الخلف أوقفتها وهي تقول:
-«إلى أين أيتها الكسولة النعسانة؟»
استدارت بثينة بسرعة وهي متوترة ثم وقفت معتدلة أمام والدتها وقالت:
-«ليس لأي مكان»
-«ما خطب ملابسك؟ والشعر، والتبرج، لا ترتدين هكذا عادة»
-«أوه أجل! كنت ذاهبة لخطبة صديقتي للتو، نسيت إخبارك بذلك، ظننت أن الأمر غير مهم»
-«أتذكر أنك كنتِ تخبرينني بكل شيء، حتى لو طارت بعوضة في المكان ستخبرينني»
-«نعم، لكن حصل الأمر بسرعة، لقد اتصلت بي للتو وأنا نائمة وقالت أنها ستغضب إن لم آتي لذا علي تلبية دعوتها»
-«تبدين كما لو أنكِ أنتِ من ستتم خطبتك»
نظرت لها بثينة بتجهم وقالت:
-«هل ستسمحين لي بالمغادرة الآن؟ حفل الخطبة على وشك أن ينتهي»
-«حسنا اذهبي، لكن سنناقش موضوعها في المساء فهو لا يريحني»
-«حسنا، أعدك أننا سنفعل، الآن دعيني فحسب»
ركضت بثينة وهي تنظر للساعة وأرسلت رسالة لإسلام ليقلها من موقف الحافلة وحين توقف أمامها بالسيارة صعدت معه بسرعة، كان منبهرا بجمالها وجمال الثوب الذي ترتديه فحدق بها للحظات حتى قالت:
-«أعتذر على التأخير، ظننت أنني ضبطت المنبه ليوقظني لكنه لم يفعل»
-«لا بأس، لكن ما كل هذا؟! لم أراكِ في حياتي تهتمين بمظهرك كاليوم، هل يعقل أنكِ غيرتِ رأيك وستوافقين على الزواج مني؟»
ثم انفجر من الضحك في نهاية كلامه لكنه توقف حين رمقته بنظرة حادة مرعبة وقالت:
-«هل علي المجيء بملابس رديئة؟ أم جينز ممزق؟ أم تنورة طويلة ومزركشة كتنورات الغجريات؟ اعتقدت أن علي جعل مظهري راقيا وجذابا أمام والديك لكي يصدقا تمثيلنا وإلا فما فائدة كل ما نفعله؟»
فرك مؤخرة رأسه بتوتر وقال:
-«صحيح، محقة، لنذهب فقد تأخرنا بما يكفي»
-«مهلا! لِمَ تقود؟ ألا تخاف أن تصاب بنوبة أثناء ذلك وتعرض حياتك وحياة الناس للخطر؟»
-«لا تقلقي، عادة أشعر بالنوبة قبل قدومها وأركن السيارة»
-«بالطبع علي أن أقلق، لا أريد رؤيتك تتأذى، كما أنني لا أثق بكلامك، لقد كنت معك أكثر من مرة أثناء النوبة ورأيت كم كانت قاسية عليك لدرجة الإغماء»
ابتسم لها وقال:
-«أرى الاهتمام في كلامك»
قطبت حاجبيها بانزعاج وقالت:
-«نعم أنا مهتمة ولكن ليس ذلك النوع من الاهتمام الذي تظنه، أي إنسان مثلي كان سيتعاطف معك ويخاف عليك، توقف عن شخصنة الأمور»
بعد ردها البارد ذاك شغل محرك السيارة مباشرة وانطلق نحو منزل أهله الذي يبعد مسافة طويلة عنهما ولحسن الحظ وصلا في حدود وقت الغداء.
توقفا بالسيارة أمام المنزل وكانت بثينة متوترة جدا وخائفة كما لو أن الموضوع حقيقة، حينها أمسك إسلام بيدها ومن توترها الشديد سحبتها وقالت:
-«لا تبالغ في التمثيل، مازلنا غريبين عن بعضنا»
-«أعتذر، لكِ ذلك»
نزلا من السيارة ووقفا أمام الباب وهما متوتران ثم رن إسلام جرس الباب ففتحت له والدته واستقبلته بابتسامة قائلة:
-«أهلا وسهلا، تأخرتما، أين كنتما طوال الوقت؟»
ردت عليها بثينة بتأسف:
-«إنه خطئي، أنا أخرته، أرجو أن تعذريني»
-«لا عليك، تفضلا، الجميع بانتظاركما»
تحدث إسلام قائلا باستغراب:
-«الجميع! من هم هؤلاء الجميع بالضبط! ظننت أنه لن يكون هناك سواكِ أنتِ وأبي!»
-«بلى، لكن لم أستطع تفويت الفرصة، أخيرا ابني سيرتبط بفتاة مناسبة له ولهذا دعوت العديد من أفراد العائلة»
نظر إسلام نحو بثينة فوجدها متصنمة من الصدمة وبالكاد استطاعت كتم فيضانات الخوف المتكتلة بداخلها.
أخذتهما الأم لغرفة الأكل فوجدا طاولة كبيرة مليئة بأنواع الأطعمة والحلويات والعصائر، ويلتم حولها العديد من الأشخاص الذين يقضون وقتهم بالحديث متناسين الضيف القادم إلى أن نبهتهم الأم قائلة:
-«انتباه، لدينا ضيفة، رجاءً رحبوا بها»
وقف الجميع من أماكنهم ونظروا نحو بثينة والبعض منهم هز رأسه والبعض الآخر لوح لها من بعيد، ثم أردفت الأم وهي تشير لأفراد العائلة واحدا تلو الآخر:
-«بثينة، أعرفك على أفراد عائلتنا، هذا زوجي، وهذاك الشابان هناك ولداي، وهناك ابنتاي، والجالس هناك أخي وزوجته، وهذا الرجل أخ زوجي وبجانبه أخته، وهناك والداي»
شعرت بثينة بالتوتر الشديد ولم تعرف ما تفعل، ودون وعي منها انحنت كما يفعل الكوريون الجنوبيون، كانت هذه الطريقة خارجة عن نطاق عادات وتقاليد الجزائريين مما جعل القابعين أمامها يستغربون، وفي آخر لحظة أنقذ إسلام الموقف بتدخله قائلا:
-«اعذروها فقد عاشت في كوريا لبضع أشهر ونسيت الكثير عن عاداتنا وتقاليدنا»
عادت بثينة لوعيها أخيرا ثم عرفت ما ستفعله لذا طافت على النساء منهم وسلمت عليهن على الطريقة الجزائرية أما الرجال فابتسمت لهم وسألتهم عن حالهم ثم ذهبت للجلوس في مقعد بجانب إسلام.
بدأ توزيع الطعام على الحضور وبدأت الوليمة تتناقص شيئا فشيئا، وطوال ذلك الوقت اكتفت بثينة بالصمت والإنصات، وكانت أيضا ترد على الأسئلة المطروحة عليها بإجابات قصيرة ولم يحصل أي تفاعل بينها وبين أفراد الأسرة جميعا.
كان إسلام أيضا محرجا بسبب وضعها الغريب وشعر أن من الخطأ إحضارها لتجربة كهذه لتمثل معه، ولهذا حاول الهروب من هناك بطريقة استراتيجية وحمل هاتفه وقال:
-«تذكرت أن لدي موعد عمل الآن، أعتذر منكم جميعا، أنا وبثينة سنغادر»
قال الأب:
-«على الأقل دعها تنهي طعامها، ما تزال تمضغه»
-«العمل أهم من الأكل»
ثم قالت الأم لبثينة:
-«كان لقاءً قصيرا جدا، ما رأيك أن تكتبي لي رقمك لأتصل بكِ من حين لآخر؟ فقط لأطمئن عليك، ولعلنا نخرج ونتعارف أكثر أيضا، وإن أزعجك ابني فلا تنسي إخباري وسأهتم به»
قهقهت والدة إسلام بصوت عالٍ بينما نظرت بثينة لهذا الأخير وهي متوترة، كانت خائفة من تطور الأمور أكثر لذلك لم تستطع قول شيء وبقيت متصنمة مكانها، وبعد لحظات قال إسلام:
-«لا بأس أمي، نحن مشغولان الآن، سأكتبه لكِ لاحقا بنفسي، الآن هناك عمل ينتظر»
ثم قال الجد بسرعة:
-«ومتى سنقابل والديها؟»
-«جدي! لنتناقش في الأمر لاحقا»
شد بثينة من ذراعها وأخذها مغادرين من هناك، وبمجرد أن ركبا السيارة وابتعدا لطمت وجهها بقوة عدة مرات وهي تصرخ بإحراج:
-«ما هذا الموقف الذي وُضعت فيه! لماذا كان علي أن أحرج نفسي بهذه الطريقة! ما هذا الحظ! ما هذا الحظ! هل هناك غبية مثلي!»
أجابها الآخر بينما يبتسم بجانبية:
-«لا أراكي غبية، بل بالعكس أراكي عفوية وطبيعية، لطالما أحببت الناس أمثالك»
رفعت رأسها نحوه ونطقت بحزن:
-«لكنني أفسدت الأمر، كان المفروص أن يبدو شكلي أرقى وأفضل بكثير، بالمقابل جعلتهم يأخذون عني انطباعا أوليًا بأنني غريبة أطوار، هادئة، مملة، مترددة في كل شيء، هل رأيت فتاةً بغبائي؟»
-«لم أرى فتاةً بغبائك...»
قطبت بثينة حاجبيها، لكنه سرعان ما قال:
-«لأنني لا أراكِ غبية أصلا، آسف لوضعك في هذا الموقف، لن نكررها مجددا أعدك، أصلا لم يبقى لي وقت كثير لأكرر أي شيء»
جعلها كلامه تدخل في حالة حزن مرعبة لذا التزمت الصمت وبقيت تنظر للنافذة خارجا، فجأة لمحت على مد البصر حقلا واسعا من الأزهار الربيعية ملون بألوان زاهية تفتح النفس وتذكرت أنه أخبرها سابقا برغبته الشديدة في النوم في حقل أزهار لذا نغزت كتفه وقالت:
-«أوقف السيارة»
استجاب لرغبتها فنزلت من السيارة وحدقت بالأزهار على مد البصر، أخذت نفسا عميقا مليئا برائحة الزهور العبقة فشعرت براحة نفسية، فجأة صارت تركض بسرعة في الحقل فاستغرب الآخر لأمرها وبقي ينظر لها، لكنه لاحظ أنها اختفت في الأزهار الكثيفة فذهب يتفقدها ولكنه وجدها نائمة في وسطها وتحدق بالسحب بسعادة، ضحك عليها بسخرية وقال:
-«ها أنتِ ذا! قلقت من أن تكوني سقطتِ في حفرة»
-«نعم سقطت في حفرة، حفرة السعادة الأبدية»
-«ما الذي تهذين به! انهضي هيا»
مد لها يده ليساعدها على الوقوف ولكنها سحبته وأسقطته بجانبها، وبالفعل فهم ما تحاول فعله لذا استلقى على ظهره ونظر للسماء والسحب التي تتحرك مع هبوب الرياح، وما زاد الجو رومنسية هو رائحة الأزهار الجميلة المحيطة بهما.
فجأة شعر بالحزن وقال:
-«هل تتذكرين؟ في فصل الربيع قبل 4 سنوات بالضبط مررنا على مكان كهذا بالسيارة، وقتها شاهدنا العائلات السعيدة وهم يحتفلون بموسم الربيع وأخبرتك أننا سنأتي للاحتفال معهم ما إن نشكل أسرة ويكون لدينا أطفال»
أغمضت عينيها بعمق وسالت دمعة يتيمة من عينيها وهي تقول:
-«أفتقد أيام الحب الأول، أفتقد حين كنا نملك الخيار للعودة، أفتقد الماضي بشدة، أتمنى لو نستطيع العودة إليه لعيش تلك اللحظات الجميلة»
بعدها استقامت بجزئها العلوي من الأرض وصرخت بينما ترفع رأسها للسماء:
-«أفتقد بثينة التي كانت تؤمن بالحب، أفتقد ابتسامتها الصادقة التي لم تظهر إلا بسبب الحب»
عادت بثينة للمنزل متعبة بعد ذلك اليوم الشاق وغيرت ثيابها ثم جلست تكتب رواية حبيبها السابق على الحاسوب وترتب تسلسل الأحداث، فجأة راودتها ذكريات ذلك اليوم وخاصة منها ما سبب لها الإحراج والتوتر فصارت تضرب رأسها بالطاولة وتتمنى محو ذاكرتها لتنسى كل ما مرت به.
نادت عليها والدتها من المطبخ فهرعت إليها وقالت:
-«نعم أمي؟»
كانت الأم منهمكة في تقشير البطاطا وردت قائلة:
-«بدل تضييع الوقت على الجلوس أمام الحاسوب اذهبي للبقالة واشتري لي أغراض العشاء»
-«أوه يا إلهي! دائما أنا من تحضر البقالة! ألا يمكنكِ الاتصال بأبي ليحضرها؟»
-«أبوك يملك وظيفة تدر الربح والمال، على عكسك»
-«فهمت، ها أنا ذاهبة»
وبينما ترتدي حذاءها عند الباب لمحت قطها تُستُس وهو يقف أمام ساقيها فربتت على رأسه وقالت:
-«لا تقلق صغيري، ماما الجميلة ستذهب للبقالة وتشتري لك السمك، التبضع مزعج ولكن والدتي لا تملك غيري، ابقى معها هنا واحرسها جيدا إلى حين عودتي، سلام»
توجهت للبقالة بسرعة لتنهي مهمتها في أسرع وقت وتعود لكتابة الرواية ولكن كالعادة استوقفها مصعب صاحب متجر البقالة وهو يحسب ثمن المشتريات ويكلمها في نفس الوقت، ودائما ما تستمتع بالحديث معه كونه شابا مثقفا وواعٍ لذا تقف فقط وتنتظر أن ينهي الكلام، وذاك اليوم أيضا أرادت طلب مشورته في موضوع محدد قائلة:
-«مصعب، هناك شخص يريد رؤية الثلج ولكننا في فصل الربيع»
-«من هذا الحالم؟!»
-«لا تهتم، هل يمكنني فعل شيء لجعل الثلج يهطل؟»
-«من هذا الذي تريدين أن تتحقق معجزة لأجله!»
تأففت بانزعاج وقالت:
-«لا أحد، دعك مني»
-«لا بأس، ربما لا أعرف طريقة لجعل الثلج يهطل في الربيع، لكن إن لم يأتي الثلج إليك فاذهبي إليه»
-«أذهب إليه؟! كيف ذلك؟!»
-«هناك مكان بعيد في المدينة يسمى (عالم الجليد) وهو عبارة عن غرفة واسعة مغلقة درجة الحرارة فيها تحت الصفر وتم تصميمها لتكون قطعة من القطب الشمالي بكل مميزاته، يمكنك هناك رؤية الثلج يهطل وصنع رجل ثلج والتزلج، نعم إنها التكنولوجيا، تستطيعين عيش حياة القطب الجنوبي من خلال دفع بعض المال»
تفاجأت بثينة من فكرته وضربت قبضتها براحة يدها الأخرى وصرخت بحماس:
-«يا رجل! هل أخبرك أحد من قبل أنك عبقري بمعنى الكلمة؟»
-«لا، الجميع يواصلون نعتي بالغبي، هل تعتبرينني عبقريا حقا؟»
-«أجل، دائما تفيدني نصائحك واقتراحاتك، علي التنفيذ فورا، شكرا مليون مرة، سلام»
ركضت خارجا من شدة حماسها ونسيت البضاعة على طاولة البيع لكنها عادت راكضة مجددا وأخذتها معها وصرخت بحماس:
-«شكرا مجددا، شكرا شكرا شكرا»
وبينما تبتعد صرخ عليها:
-«لا تنسي ارتداء ملابس دافئة حين تذهبين إلى هناك»
أسرعت بثينة للمنزل ورمت البقالة في المطبخ بسرعة ثم توجهت لغرفتها وحملت هاتفها بحماس وكتبت لإسلام رسالة فحواها: «مساء الخير، هناك مكان لطالما أردت زيارته فهل تأتي معي؟»
أرسلت له المكان وهو عبارة عن حديقة ملاهي تحتوي عالم الجليد الذي أخبرها عنه مصعب، ثم كتبت له: «غدا الساعة العاشرة صباحا سنتوجه للمكان، ولا تنسى ارتداء ملابس دافئة»
رد عليها: «ولِمَ الملابس الدافئة في فصل الربيع؟!»
كتبت: «قلت أن كل شيء في أوانه، لنلتقي غدا»
رد عليها: «نعم، غدا موعدنا»
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:21 pm عدل 5 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
صباح ربيعي مبهج، مليء بزقزقات العصافير المطربة للأذن، أشعة شمس ذهبية تتخلل الجو فتجعله دافئا وهادئا، لكن المثير للحيرة هو حال بثينة التي استغرقت في النوم مجددا ونسيت موعدها.
بعد أن استيقظت التفتت للساعة بكسل فانصدمت حيث وجدتها العاشرة بالفعل، لذا نهضت بسرعة واغتسلت وتجهزت بملابس شبه دافئة وأخذت معها معطفا تمسكه في يدها حتى تستخدمه حين تصل.
وبينما تضع هاتفها في حقيبتها وجدت رسائل من إسلام يعلمها فيها بأنه ينتظرها منذ ساعة ويسألها هل ستأتي أم لا لذا ركضت إليه مسرعة دون أن ترد.
آنت الساعة الحادية عشرة وهو الوقت الذي التقت فيه بثينة بإسلام الذي كان ينتظرها عند موقف الحافلة المعتاد بسيارته وهو واضع يده على خده بملل، وصلت إليه أخيرا وصعدت معه السيارة ثم صافحته وقالت:
-«أعلم أنني متأخرة كالعادة»
رد عليها بانزعاج:
-«هل كنتِ نائمة وأنا أنتظر هنا منذ ساعة؟»
-«أجل»
-«تبا! دائما تفعلينها بي»
-«أعتذر، لكن صدقني ستنسى غلطتي ما إن ترى وجهتنا»
-«حسنا، لنمضي»
شغل محرك السيارة واتجه للمكان المطلوب وتفاجأ أنه مجرد حديقة ملاهٍ عادية، لكن رغم ذلك شعر أنها سعيدة بقضاء الوقت معه ورغبتها في مشاركته في جولة صغيرة هناك.
سارت هي أولا وتبعها حتى دخلا مدينة الملاهي واتجهت به نحو عالم الجليد الذي أخبرها عنه مصعب صاحب دكان البقالة ووقفت عند البوابة الرئيسية.
تفاجأ من المكان وعرف ما الذي تريد فعله لذا شعر بالحزن ونظر نحوها وقال بحشرجة:
-«أوه بثينة! هل تذكرتِ أيضا ما أخبرتك به عن الثلج؟»
-«بلى، كانت إحدى أمنياتك الأخيرة قبل أن تموت رؤية الثلج، لن أشعر بالراحة إن لم أحقق لك الأمنية، وأيضا آسفة للغاية»
-«على ماذا؟!»
-«الثلج لا يهطل في الربيع ولذلك واجهت صعوبة في تحقيق الأمنية، هذا كل ما استطعته، أعدك أنني سأنتظر الشتاء بفارغ الصبر ومعه سقوط الثلج وحينها سنشاهده معًا»
تأثر القابع أمامها من كلامها ودمعت عيناه وكاد يبكي، وبينما تلك المشاعر الحارقة تعتريه قال بحشرجة:
-«أنا...حقا...لا أعرف كيف أشكرك، هل يمكنني معانقتك؟»
أومأت برأسها أنْ لا وقالت:
-«لا حاجة، فهمت أن الفكرة أعجبتك، والآن دعنا نستمتع بوقتنا»
-«أجل، لنستمتع»
دخلا عالم الجليد بعد أن اشتريا التذاكر وكان مكانا كبيرا ومغمورا بالثلج كما لو أنه قطعة حقيقية من القطب الشمالي، كان هناك أيضا ثلج اصطناعي يتساقط من الأعلى عليهما وحولهما بعض الأشخاص والأطفال الذين يلعبون بالثلج ويتراشقون بالكرات الثلجية.
ركضت بثينة تحت الثلج المتساقط وصارت تلتف حول نفسها بسعادة وتضحك بصوتٍ عالٍ ثم توقفت وانحنت للأرض تلتقط حزمة ثلج كورتها ثم رمتها على إسلام لكنها لم تصبه فصرخ قائلا:
-«تريدين الحرب؟ لكِ ذلك»
صنع هو الآخر عدة كرات ثلج وصار يرميها بها فتارة يصيبها وتارة لا، وبينما هي تهرب حاولت أيضا ضربه وتحول المكان لساحة حرب بينهما، إنه لأمر ممتع اللعب بالثلج، هذا يعيد للإنسان تلك المشاعر التي عاشها خلال مرحلة الطفولة، هكذا كانا يشعران في تلك اللحظة، طفلان يافعان للأبد.
بعد أن تعبا من الركض والتراشق بالكرات الثلجية جلسا جانبا يشاهدان الناس وهم يلعبون والثلج ينزل عليهم من أعلى، حينها قال إسلام:
-«أشعر أنه الشتاء بالفعل، لكن ما سرني أكثر أن ذاك الشتاء الذي في قلبي قد زال»
-«شتاء قلبك!»
-«أنتِ كاتبة ولا بد أنكِ تفهمين التشبيهات والكنايات»
-«كنت فاشلة في دروس اللغة العربية لسنوات طويلة»
-«كيف تخرجتِ من الجامعة! لا تبدين كما لو أنكِ تفقهين أي شيء حول تخصصك»
-«معك حق، لكن كل ما درسته في تخصصي كان دون فائدة ولم أستخدم منه حرفا واحدا في حياتي اليومية، تخيل فقط أن أذهب لوظيفة وأخبرهم ببيت شعري، أو أن أشرح لهم الكناية والتعبير المجازي أو السجع، أو أخبرهم أن جميل كان يعشق بثينة وينضُم فيها الشعر»
انفجر إسلام من الضحك وأومأ برأسه أنْ نعم دليلا على أنها محقة في كلامها، ثم قال بعد ذلك بابتسامة بريئة ولطيفة:
-«دعيني أشرح لك، بعد مغادرتك لحياتي أحسست أن هناك جليدا متكدسا في صدري، لم أعد أشعر بمعنى الدفء والسعادة، لقد عانيت الأمرين وأنا أنتظرك لتسامحيني وتعودي، فقط اتصال واحد منكِ كان بإمكانه جعلي أذوب من السعادة، بالمختصر، أنتِ الدفء والأمان الذي أحتاجه لكي أستمر»
نظرا لبعضهما وشعرت بالحزن الشديد، كانت هي الأخرى قد أحست بنفس الشيء عند انفصالهما، لكن وضعهما مختلف في شيء واحد وهو أنها لم تكن تستطيع العودة لأنه جرحها وحطمها بما يكفي، أما هو فكان متمسكا بخيط السنارة الرفيع فلا يأبى تركه رغم هشاشته، كان ينتظر عودتها لتسامحه وتنسى ما بدر منه.
تحدثت بثينة بعد تفكير عميق:
-«لا تقلق، أنا إلى جانبك، سنبقى أصدقاء للأبد، حتى يموت أحدنا، الناس يموتون جميعا فمن يدري لعلني أموت قبلك حتى ولو كنت سليمة من أي مرض، إنها فقط مسألة عمر مقدر»
-«أتمنى لكِ دوام الصحة والعافية، لكن...ألا يمكننا أن نكون أكثر من أصدقاء؟ فقط لهذه الفترة القصيرة؟»
-«لقد بذلت قصارى جهدي لتحقيق أمنياتك قبل أن تموت، حتى حين تمنيت أن تقضي وقتك الأخير مع كاتبتك المفضلة فلم أرفض ذلك رغم كل الخلافات التي بيننا، لكن أن أعود ببساطة وأنسى كل شيء! هذا صعب، تفهمني أرجوك»
أومأ لها برأسه أنْ نعم ثم واصل النظر للثلج وهو يتساقط، كلاهما كان يراقب بلورات الثلج المتساقطة ويبنيان عليها أحلاما لن تتحقق أبدا.
بعد مرور أيام جلست بثينة في إحدى الحدائق العامة على كرسي وطاولة وانتظرت إسلام ليأتي وينهيا معًا آخر جزء من الرواية، كانت متوترة للغاية كونها آخر مرة ستراه فيها، فمن بعد انتهاء هذا الجزء ستحذف كل طرق التواصل معه وتقبض مالها وتغادر للأبد، بقاؤها معه تلك الفترة أجهدها نفسيا بالفعل وجعل مشاعرها القديمة تتحرك وتعود ولهذا عليها إنهاء الأمر.
بينما تنظر لدفترها وتقلب الصفحات وجدت قائمة أمنيات حبيبها السابق، كانت كالتالي:
-السفر. -رؤية الثلج. -النوم في حقل من الزهور. -الذهاب لجبل عالٍ والصراخ بأعلى صوت. -قضاء الوقت مع الكاتبة المفضلة.
كانت بالفعل قد حققتها إلا واحدة منها وهي السفر، لكنها لا تستطيع السفر معه لمكان بعيد لذا عليها تحقيق هذه الأمنية الأخيرة وإنهاء كل شيء.
قاطعها عن تفكيرها صوت إسلام وهو يلقي عليها التحية وقد لاحظت أنه حزين ويضع قبعة تغطي ما سقط من شعره إضافة لبشرته التي زادت شحوبا وجسده الذي يهزل يوما بعد يوم، حدقت به بشفقة شديدة وقالت:
-«صباح الخير، كيف حالك؟»
أومأ لها برأسه أنْ لا ففهمت أنه في حالٍ يرثى لها، تمعنت في ملامح وجهه الحزينة قليلا وقالت:
-«لا عليك، كل شيء سيكون على ما يرام»
أومأ لها برأسه أنْ لا مجددا وقال:
-«رغم أن هذا الكلام لا معنى له لكنني سأحاول تصديقه لأجلك فقط»
تنهدت بعمق مخرجة الأسى والحزن ثم فتحت دفترها على صفحة جديدة وقالت:
-«لنبدأ من حيث توقفنا؛ فترة شبابك»
-«حسنا لنرى، كما ذكرت سابقا فقد قضيت فترة شبابي أتلاعب بقلوب النساء وأدخن وأتعاطى الكحول لأنسى حبي الأول الذي علق في ذاكرتي للأبد، كنت تائها تماما، ورغم تجربتي للدخول في علاقات جادة أكثر من مرة فلم أنجح، كانت أمي أيضا تعلم بمصابي وتعرض علي الكثير من الفتيات لأتزوجهن لكن بدون فائدة، لقد يئست من الحب وبقيت في تلك الدوامة لسنوات»
-«أتساءل لماذا أرادت والدتك تزويجك رغم أنها لا تحبك»
-«مجرد تمثيل أمام باقي أفراد العائلة حتى يظنوا أنها مهتمة حقا»
-«ألم يخطر ببالك ولو لمرة أنها حقا تحبك وتريد رؤيتك تبني عائلة؟»
-«لا، لا تحاولي إقناعي فأنا الذي عشت معها سنين طويلة من عمري وأعرف ما أعنيه لها»
-«حسنا لن أجادلك، أكمل رجاءً»
واصلت تسجيل رؤوس الأقلام على دفترها بينما استأنف إسلام الكلام قائلا:
-«لقد مرت حياتي على نحو مقرف، إلى أن وفي يوم من الأيام...»
توقف فجأة عن الحديث وبدا متأثرا مما سيقوله لذا خرجت الكلمات من شفاهه بصعوبة وهو يقول:
-«في الحادي عشر من شهر أكتوبر من عام 2017...»
أسقطت بثينة القلم دون وعي ونزلت دمعة من عينها وقالت:
-«أنت تتذكر التاريخ!»
-«بلى، إنه أجمل تاريخ في حياتي، لقد تعرفت فيه على فتاة بالصدفة ودخلنا في علاقة حب، لم أكن جادا معها البتة، كنت أعتبرها مجرد تسلية مثلها مثل غيرها، خرجنا أكثر من مرة وتحدثنا كثيرا على الهاتف، ووعدتها أنني سأتقدم لها رغم أنني لم أكن صادقا البتة معها»
طوال فترة حديثه اكتفت بثينة بالاستماع والبكاء بدون صوت وهي مطأطئة الرأس، ثم استأنف كلامه قائلا:
-«مر علي وقت طويل وأنا أحدثها، كان أمرا غريبا، علاقاتي مع الفتيات عادة لا تستغرق أكثر من شهر، لكن لِمَ هي مميزة! لماذا أجد نفسي أنتظر أي اتصالات ورسائل منها وكلما سمعت صوتها نسيت جل همومي وأحزاني، أيعقل أنها المنقذة؟ هكذا كنت أحدث نفسي دائما، لقد وقعت في حبها وتعلقت بها بجنون دون أن أدري»
ثم أخذ قنينة الماء بجانبه ليروي ريقه الذي جف من شدة التوتر واستأنف كلامه قائلا:
-«كانت علاقتنا جيدة لفترة طويلة، لكننا كنا مختلفين في التفكير وهذا ما سبب لنا المشاكل، هي كانت باردة وحذرة من الرجال، وأنا كنت متهورا وأعطي الكثير دون مقابل، أردتها أن تكون كحبيبتي السابقة وتعطيني كل شيء ولهذا استمريت بمقارنتها بها وجعلها تتحطم، أتساءل لماذا فعلت ذلك فأنا أعلم جيدا أن أكثر ما يحطم قلب المرأة هو مقارنتها بغيرها، لكنني كنت منزعجا، هي فتاة حريصة جدا وتخاف من خداع الرجال وخيانتهم لذا كانت شبه باردة معي، وهذا جعلني أظن أنها لا تهتم ولا تحبني»
لم تستطع بثينة كتم دموعها رغم كل ذلك ثم قالت:
-«أتتذكر ما قلته؟ قلت أنك تستحق الثقة وأنك مختلف ولن تخون ولن تخدع ولن تكذب، لكن تبين لاحقا أنك فعلت كل ذلك دون ضمير»
-«أجل، أعترف، وآسف لذلك، لقد ندمت لاحقا»
-«دائما نفس الشريط، أنا آسف وأنا نادم وسأصحح خطئي، أنت لن تتغير أبدا، دعنا من كل ذلك، أكمل»
-«وقتها هي لم تكن تعلم أنني ابن زنا وخلفية عائلتي وسخة جدا وقد عملوا بالدعارة لسنوات، لقد أخفيت الأمر عنها حتى لا تتركني، أعلم أن عائلتها لن توافق علي مع كل ذلك السجل الوسخ، ولهذا كذبت وكذبت حتى النهاية، لم أكن أعرف كيف أخبرها الحقيقة المرة، لهذا أخرت الأمر قدر الإمكان»
-«وإلى متى؟»
-«لا أعلم، لم أكن أملك أدنى فكرة، لكن لاحقا اكتشفَت الأمر وتركتني، تركتني من دون رحمة، وذلك بتاريخ الخامس عشر من شهر جانفي 2019»
-«هل توقعت أن تبقى معك بعد كل ذلك؟»
-«لا أعلم، ربما، ظننت أن الحب يصنع المعجزات، ربما كانت ستقف بجانبي وتساندني ونجد حلا معا»
-«هذا واقع وليس مسلسلا تركيا»
-«أعلم، لكن هذا ما تمنيته»
-«دعنا نعد للرواية»
-«أجل، من أحد أهم الأسباب التي جعلتنا ننفصل أيضا هو أنني لم أكن مثاليا كما كنت أدعي، لقد كنت مجرد...»
قاطعته قائلة:
-«قل الحقيقة، هل خنتني؟ كن صادقا لمرة في حياتك، لمرة واحدة»
بدا حزينا جدا وقال:
-«رغم أننا كنا معا، وكنت أحبك بجنون، لكنني لم أستطع الاكتفاء بك، لقد كنتِ المرأة التي تمنيت الزواج منها لتربي أطفالي، لكن...كنت أكلم الكثير من الفتيات غيرك وأخرج معهن و...»
أغلقت بثينة دفترها المليء بالدموع وضربته به نحو صدره وهي تبكي بحرقة وتصرخ:
-«كنت أعلم، لماذا واصلت الإنكار؟ لماذا؟ كان فقط عليك قولها، بأنني لست كافية لك، لماذا كلما كشفتك مع فتاة تنكر وتتمسك بي؟ لماذا لم تتركني أذهب في حال سبيلي؟ أأنت سعيد الآن لأنك دمرتني؟ أنا لم أعد أستطيع الثقة بأي أحد، لقد فقدت القدرة على الثقة والحب، أنت السبب، رجاءً دعني وشأني»
وضعت رأسها على الطاولة وأكملت البكاء بصوت عالٍ، وعندما أشفق إسلام عليها وحاول مواساتها برفع رأسها دفعت يديه بقوة وحملت دفترها وقلمها ثم نظرت له نظرة أخيرة بوجهها المبلل وقالت:
-«فليسامحك الله، أنا لن أستطيع مسامحتك، أما بشأن الرواية فشكرا لك، سأنشرها عما قريب، لدي هنا كل ما أحتاجه، أتمنى لك حياة سعيدة، أو على الأقل ما تبقى لك منها»
غادرت من هناك محطمة وتركته هو الآخر محطما، كان من الصعب عليه الاعتراف بالحقيقة لها لكنه أراد أن يكون صادقا معها ولو لمرة في حياته كما قالت له، وبالمقابل خسرها للأبد ولن تستطيع محادثته مرة أخرى.
وهي الأخرى ركبت الحافلة تبكي وتذرف الدموع التي كتمتها لسنواتٍ طوال، تلك الدموع المعبرة عن كتلة ألم متحجرة بداخلها والتي حان الوقت لتخرجها أخيرا.
كذب عليها بشأن والدته وعائلته فبكت سابقا، جرح مشاعرها بمقارنتها مع حبيبته السابقة فبكت أيضا، والآن تبقت أخر دفعة من الدموع لتذرفها بسبب معرفتها لقصة الخيانة.
كانت بالفعل تشك أنه خائن لكن حبها الشديد له جعلها تتجاهل كل الوسوسات وتصدق أنه وفي ولا يفعلها حتى بعد انفصالهما.
منذ ذلك الوقت لم يلتقيا ولم يراسل أي منهما الآخر لأشهر، هي كانت مجروحة بما يكفي لتكره وجهه طوال حياتها وهو كان خجلا من نفسه ومستاءً لأجلها ولا يستطيع مواجهتها ولا إزعاجها.
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:21 pm عدل 5 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
موضوع: رد: رِوَايَةُ خَلِّدِينِي!! (بِقَلَم : بُثَيْنَة عَلِي) الأحد يونيو 19, 2022 4:03 am
رواية خلِّديني : الفصل التاسع
هبت نسمات الرياح الباردة التي حركت ما تبقى من أوراق الأشجار المصفرة الموجودة على أعلى الشجرة في الحديقة الخلفية المطلة على نافذة غرفة بثينة.
نظرت تلك الأخيرة للجو عبر النافذة فلاحظت غيوما رمادية منذرة بجو عاصف قادم باتجاه الجنوب، إنها نهاية فصل الخريف وبداية الشتاء البارد المليء بالأمطار والتقلبات الغريبة.
عادت للداخل لتجلس على مكتبها أمام الحاسوب ثم قامت بفتح الرواية الواتبادية التي ستقوم بنشرها لأجل حبيبها السابق، فرغم مرور أشهر على آخر لقاء لهما لكنها لم تنهيها بعد، كانت تتردد كثيرا بشأنها وأحيانا تتوقف لساعات أمام الأمور التي تجرحها وتعاني كلما حاولت نقل حرف واحد، كانت أيضا تعيد قراءتها من حين لآخر وتشعر أنها ليست بتلك الروعة لتستحق النشر لذا تضيف لها تفاصيل أكثر وتحسن بعض التعبيرات، وأحيانا تشعر بالنقص وعدم الثقة والألم وتقرر عدم نشرها نهائيا.
هكذا الحال دائما معها، هي خائفة، مترددة، متسرعة في إصدار الحكم على نفسها، مجروحة والجرح لن يلتئم في وقت قريب.
ومجددا قامت بمراجعة الرواية لآخر مرة وقبل أن تقرر الضغط على زر النشر لأول فصل شعرت بالتردد وضعف الثقة بالنفس، كان هذا حاجزها الذي يصعب كسره، لكن قاطعها صوت هاتفها وهو يرن معلنا عن مكالمة واردة من رقم مجهول، تجاهلتها وهمت بمصارعة نفسها من أجل نشر أول فصل من الرواية ولكن المتصل لم يتوقف البتة بل واصل الاتصال بها مرارا وتكرارا لدرجة أزعجتها، حينها قالت:
-«أيعقل أن يكون من وكالة التوظيف؟»
فتحت الخط ووضعت الهاتف على أذنها وقالت بصوت منخفض:
-«ألو!»
ردت عليها فتاة غريبة قائلة:
-«بثينة علي؟»
-«أجل، تفضلي»
-«أعلم أن اتصالي بمثابة إزعاج لك ولكن الحقيقة أنه لا يريد الموت قبل أن يراك»
-«عفوا!»
-«أنتِ قاسية القلب برأيي، لا يمكنكِ فعل ذلك، ارأفي بحاله قليلا»
-«عفوا! لا أفهم ما الذي تتحدثين عنه! ومن أنتِ بالضبط؟»
-«تعرفين إسلام صحيح؟ لا تسأليني من إسلام فأعلم أنكِ تعرفينه جيدا»
أخفضت بثينة رأسها والتزمت الصمت بينما انتظرت منها الأخرى ردا وحينما غاب الرد قالت:
-«إنه يريد رؤيتك، هو حاليا في المستشفى في أيامه الأخيرة»
ومرة أخرى ساد صمت قاتل من جانب بثينة فاستأنفت الفتاة حديثها قائلة:
-«أعلم أنه لا علاقة لي بالموضوع ولا يحق لي أن أحاسبك حتى، لكن رجاءً ارأفي بحاله وتعالي، الوقت يمضي، ستندمين إن لم تريه لآخر مرة»
أخيرا نطقت بثينة بحشرجة:
-«أين أعثر عليه؟»
أعطتها تلك الفتاة عنوان المستشفى، وحين ذهبت هناك التقت بها فتبين أنها ممرضة تعمل هناك، ألقت كلاهما التحية على بعضهما ثم قالت الممرضة بصوت خافت حزين:
-«آسفة لإزعاجك ولكنني لم أستطع تحمل الثقل الذي على كاهلي، طوال فترة الأسبوع التي أمضاها هنا كان يحكي لي الكثير عنك ويتندم لأنه جرحك ولم أستطع تحمل الوضع أكثر فطلبت رقمك منه واتصلت بك، رجاءً لا تتركيه، كوني معه خلال هذه الأيام الصعبة فقط وبعدها يمكنكِ المغادرة»
-«لكن...»
-«رجاءً...فقط يوم أو يومين على الأكثر»
أومأت بثينة برأسها أنْ نعم فاصطحبتها الممرضة لغرفة خاصة وعندما نظرت من خلال الزجاج الخارجي الموجود في الباب شاهدت شخصا نحيلا نائما على السرير كالجثة الهامدة أقرع الرأس التمت الهالات السوداء حول عينيه كمتعاطي المخدرات، كان بالكاد يرمش فقد بدا يائسا من الحياة لدرجة لا يتصورها أحد.
قبل أن تدخل قالت الممرضة:
-«شكرا لك، لن ينسى لكِ ذلك»
ثم غادرت وتركتها في تردد تحدق بجثته المرعبة، لحظات حتى استجمعت شتات نفسها ودخلت فنظر لها بطرف عينه وتفاجأ وكان سيقوم من مكانه لولا أنها ركضت عنده وأوقفته قائلة:
-«لا عليك، فقط احظى بجلسة مريحة، سأقف هنا»
كان مندهشا من رؤيتها هناك لذا حدق بها للحظات وقال بنبرة متعبة متقطعة:
-«لم أكن أصدق أنكِ ستأتين لو لم أراكِ بأم عيناي»
-«صحيح، أنا أيضا لا أصدق انني فعلت، كيف حالك؟»
-«بصراحة...كنت أسوأ حالا قبل أن تأتي، لكنني الآن بخير»
-«سعيدة بذلك، هل تشعر بالألم؟»
-«أجل، في كل دقيقة وثانية»
-«ألا تؤثر بك المسكنات؟»
-«وماذا تبقى من جسدي أصلا؟ أنا مجرد جثة الآن»
ثم صمت كلاهما لبعض الوقت بسبب الحزن المرعب حتى استأنف هو الكلام:
-«بثينة، الرواية، هل قمتِ بنشرها؟»
-«ليس بعد»
قام برفع يده المتعبة النحيلة وأخرج من الدرج ظرفا بريديا وقدمه لها، عندما فتحته وجدت فيه مبلغا من المال، إنه نفسه المبلغ الذي وعدها أنه سيقدمه لها مقابل الرواية، ثم قال بحشرجة:
-«كانت لدي الكثير من الأمنيات قبل أن أموت وأنتِ قمتِ بتحقيقها لي، والآن حققي لي الأمنية الوحيدة التي أردتها بعد أن أموت، أن أبقى خالدا للأبد في عمل من أعمالك»
أشعرها كلامه بالحزن فضغطت على الظرف بقوة ودمعت عيناها وتحدثت بحشرجة قائلة:
-«أنا جائعة، سأخرج لآكل شيئا ثم أعود»
أومأ لها برأسه أنْ نعم ثم أغمض عينيه لينام فخرجت من هناك مسرعة تسير باضطراب وتشويش عبر أزقة المستشفى، نزلت للشارع أخيرا وأكملت سيرها منخفضة الرأس يائسة بائسة تفكر فيه بشفقة وحزن.
فجأة وبينما تسير نظرت لزجاج إحدى واجهات المتاجر فرأت نفسها وكم كانت مثيرة للشفقة وهي حزينة عليه، لكن شيئا آخر لفت انتباهها في نفس المكان وهو إعلان لنظارات العالم الافتراضي الجديدة التي دخلت السوق وهي محاكاة كاملة للواقع.
نظرت مجددا ليديها فوجدت الظرف الذي فيه النقود وخطرت على بالها فكرة رائعة.
بعد حوالي ساعة عادت لغرفة إسلام في المستشفى ومعها علبة وابتسمت له وقالت:
-«احزر ماذا، هناك أمنية من بين الأمنيات التي أخبرتني عنها لم أستطع تحقيقها لك وحان الوقت لأفعلها، صحيح أنك طريح الفراش ولا تستطيع السفر لمكان بعيد لكن كما قالها مصعب إن لم يأتي الشيء إليك فاذهب إليه...»
ثم صمتت فجأة بعد أن أدركت أن هناك خطبا في كلامها ورفعت أحد حاجبيها استغرابا وقالت:
-«مهلا! في حالتنا هذه يجب أن أقول إن لم تستطع الذهاب لمكان محدد فلتحضره عندك، بصراحة لم أعد أفهم شيئا، المهم أن المعنى بقلب الشاعر»
رغم مرض إسلام الشديد وتعبه لكنه انفجر من الضحك بصوت خافت وقال:
-«وماذا بعد؟»
-«أقدم لك أحدث اختراع، نظارة العالم الافتراضي، بإمكانك بواسطتها الذهاب حيثما شئت وأنت نائم في سريرك»
أخرجت النظارة من العلبة ووضعتها على رأسه ثم ربطتها بهاتفها بحيث تستطيع أن ترى معه ما يراه، ثم شغلت له برنامجا للسياحة والسفر وكانت كل مرة تعرض له دولة مختلفة وكلما حرك رأسه تحركت معه العدسة كما لو أنها واقع، الصورة كانت عالية الدقة والمكان مذهل وواقعي لدرجة أنه أحس نفسه هناك بالفعل.
بعد دقائق من تلك الرحلة الممتعة خلعت عنه النظارات وجلست مقابلة له بابتسامة وقالت:
-«ما رأيك؟»
-«رحلة مشوقة جدا، شكرا جزيلا لك»
-«العفو، بالنسبة للرواية فسأحتاج وقتا لأنشرها كلها»
-«لا بأس، خذي وقتك»
-«هل جاء أبواك لزيارتك؟»
صمت إسلام صمتا مرعبا مما جعل بثينة تقول:
-«لا تقل أنك لم تخبرهما حتى الآن»
أومأ برأسه أنْ نعم فقالت بثينة بنبرة تظهر الانزعاج:
-«أعطني رقمهما، سأتصل بهما»
أومأ لها برأسه أنْ لا فصرخت عليه بحدة:
-«توقف عن التظاهر بالكبرياء، إنهما أبواك، عليهما أن يعرفا بمصابك ويبقيا معك على الأقل»
-«أخبرتك سابقا أنهما لا يهتمان، لقد أخذت إجازة من العمل لمدة شهر لكنني لم أتلقى منهما أي اتصالات لحد الآن، هما حتى لم يسألاني لماذا أو إذا كنت بخير، ولهذا يئست منهما، ومن كل شخص في أفراد عائلتي»
شعرت بالحزن الشديد ولذلك حاولت تغيير الموضوع قائلة:
-«أخبرني القليل عن حياتك بعد أن انفصلنا»
-«كانت ملخصة في ندم، حزن، يأس»
-«أقصد...ماذا كنت تفعل؟ وكيف عشت حياتك؟»
-«ركزت على عملي أكثر وأصبحت إنسانا ناجحا، واشتريت منزلا خاصا، وعشت حياتي المملة دونك، حاولت نسيانك قدر الإمكان ولم أستطع ولهذا تذرعت اليأس لما تبقى من حياتي إلى حد الآن»
-«لقد أخبرتني الكثير عن حياتك، وحان الوقت لأخبرك عن حياتي، بعد أسبوع من انفصالنا تظاهرت أنني بخير، وخرجت في أول موعد غرامي لي مع رجل آخر، لقد قررت أن أبدأ حياتي من جديد وأتعرف بشخص آخر لأنساك، حين قابلته بدا رجلا رائعا تماما مثلك أول مرة، وحتى حين سألت عنه قيل أنه إنسان رائع، ظننت أنني أستطيع المضي في حياتي قدما، لكن كلما نظرت له وحاولت الكلام معه انهمرت دموعي لأنني كنت أراك أنت وحدك من خلاله»
ثم مسحت دموعها التي بللت خديها وأردفت:
-«كانت تلك أول وآخر علاقة أحاول المضي فيها بعدك، ومن وقتها اعتزلت الحب والرجال والعلاقات، وكلما فكرت بالارتباط لنسيانك شعرت بضيق خانق في صدري، أظن أنني لن أستطيع تجاوز الأمر أبدا ولا الوقوع بالحب مجددا، ومن هنا بدأت البحث عن هواية أفرغ بها أحاسيسي وعواطفي وكانت الكتابة هي منقذي»
بينما تبكي أحست بيده التي تتموضع على يدها وأردف بنبرة هادئة ومتقطعة كأنه يختنق:
-«آسف، لن أسامح نفسي»
وبينما يشدد الضغط على يدها شاهدت من خلال النافذة ألعابا نارية تنفجر في السماء فتحدثت والدموع تبلل عينيها:
-«إسلام، انظر، إنها الألعاب النارية، إنها أول مرة نراها معا»
وفجأة صار جسده ينتفض ويرتجف كما لو أنه يواجه سكرات الموت، سمعت بثينة صوت جهاز كشف نبضات القلب والتنفس وهو يصدر أصوات إنذار وفي أقل من دقيقة رأت نبض القلب يتحول لخط مستقيم معلنا معه عن وفاة الشخص المتصل به، حينها مسحت دموعها وشددت على يده التي ما تزال تمسك يدها وقالت:
-«رغم أنني أكرهك، لكنني أحبك»
ثم قامت من هناك وذهبت لمناداة الممرضة.
بعد أن انتهى كل شيء جلست في ركن من أركان المستشفى على الكرسي تراقب الذاهب والقادم بشرود، كانت تائهة تماما وحزينة ومحطمة فذاك اليوم يوم مرعب بحق.
ركضت نحوها الممرضة التي اتصلت بها وأعطتها كيسا يحتوي ملابسه وأغراضه وكذا هاتفه وقالت:
-«أنتِ الوحيدة التي تعرفينه لذا خذي أغراضه رجاءً»
قالت بثينة بشرود:
-«مازلت لا أدري ما سأفعله بشأنها، مجرد رؤيتها تشعرني بالقشعريرة والخوف والحزن، وجميع أنواع المشاعر السلبية الغريبة»
-«أجيبيني، أتحبينه؟»
-«كثيرا، وبلا حدود، لكن الحب لا يكفي كما أقول دائما، هناك الثقة والاحترام والمودة، وهاته الأشياء الثلاث غائبة في العلاقة الكامنة بيننا، ولهذا انتهى بنا الأمر هذه النهاية المأساوية»
-«لا أعرف القصة بحذافيرها ولكنني أعلم أنه أخطأ خطئا شنيعا بحقك وقد كرر هذا الأمر أمامي طويلا، لكن رميك لكبريائك وتحليك بالطيبة والمجيء هنا لرؤيته جعلني أشعر أنكِ فتاة رائعة وتستحقين أن يحبك كل إنسان»
أخفضت بثينة رأسها ونظرت لكيس الأغراض الذي بيدها وقالت بحزن:
-«أجل أنا كذلك، لا تعلمين كم حاربت كرامتي وكبريائي وقلبي المنكسر لأكون هنا معه»
غادرت الممرضة بعد نقاش قصير دار بينها وبين بثينة وتركتها متحجرة على نفس الحال الحزين تحدق بالأرضية بشرود، فجأة قاطعها صوت رنين الهاتف، لكن لم تكن نغمة هاتفها بل هي نغمة هاتف إسلام.
نظرت للمتصل فوجدته مسجلا تحت اسم (أمي) وفي تلك اللحظة انفجرت فيضانات الدموع التي حبستها بداخلها لأشهر ومعها شهقات قاتلة تكوي الضلوع.
ارتجفت يدها وهي تحدق بالهاتف ولم تستطع حتى أن ترد، احتاجت لحوالي ربع ساعة لتتخلص من وضع البكاء والدموع ثم مسحتها وردت على الهاتف بصوت هادئ قائلة:
-«مرحبا سيدتي، معكِ بثينة»
-«أهلا بثينة، هل إسلام معك؟»
-«هل تحتاجينه لأمر يخص العمل أم تذكرتِ السؤال عنه أخيرا؟»
-«عفوا! ما قصدك؟»
-«لنلتقي في المشفى رجاءً، تعالي أنتِ وزوجك، لدي كلام معكما»
-«المشفى! ولماذا المشفى؟! هل أنتِ بخير عزيزتي؟»
-«أنا بخير لكن لست من تحتاج المشفى بل شخصا آخر، تعاليا رجاءً»
توجه الوالدان كلاهما للمستشفى مسرعين وقابلا بثينة هناك، وأول ما فعلته أنها توجهت بهما لقاعة تجميد الموتى وفتحت لهما الممرضة إحدى أدراج الموتى فظهر ابنهما ممددا بذلك الجسد النحيل والبشرة الشاحبة، كان يبدو نائما كملاك هادئ ولطيف.
تعجب كلا الوالدين للأمر ولم يصدقا ما يريانه فرفعت الأم يدها لوجهه البارد ومسحت عليه وأردفت بعدم تصديق:
-«إسلام؟! هل هذا حقا إسلام؟ ما الذي يجري؟!»
تحدثت بثينة بصوت منخفض منكسر قائلة:
-«نعم هذا هو ابنك الذي لم تعتبريه ولا مرة جزءا منك، إنه ابنك الذي...»
قاطعها الأب بنبرة خوف وقلق:
-«ماذا حصل؟»
ردت بثينة بغضب شديد:
-«ما الذي حصل؟! ألستما والداه؟ ألم تستطيعا على الأقل معرفة خطبه؟ لقد كان مريضا بالسرطان لأشهر ولم يجد أحدا بجانبه، أنتما حتى لم تشعرا بأي شيء، جسده النحيل والمتعب وشعره المتساقط وعيناه الغائرتان وتغيبه المستمر عن العمل والدوار والتقيؤ وكل تلك الأعراض ألم تدركا أن وراءها خطبا ما؟ كيف بإمكانكما أن تكونا باردَي المشاعر هكذا؟!»
حرك كلامها قلبهما فانحنت والدته نحوه ووضعت رأسها على رأس الجثة وانزلقت دموعها الساخنة غصبا عنها، ثم استأنفت بثينة الكلام قائلة:
-«أنتما قاسيان، أتمنى أنكما سعيدان بالتخلص منه، لطالما كان يقول لي أنكما تنبذانه وتعتبرانه فردا دخيلا على العائلة ولا أحد يحبه أبدا»
قال الأب باستنكار:
-«الأمر ليس كذلك»
-«بل هو أسوأ من ذلك، كان عليكما رؤية ملامح وجهه وهو يائس منكما، تحدثه عنكما بتلك الطريقة جعلني أفهم كم الألم الذي في صدره، أعلم أنه ابن غير شرعي ولكن هذا ليس خطأه، بينما العالم يضطهده كان عليكما أن تكونا سندا له، مؤسف أن كل العالم ضده وحتى والديه»
ثم نظرت باتجاه الأب محدثة إياه:
-«وأنت، أعلم أنك لست والده الحقيقي ولكن حين تزوجت أمه فهذا يعني بأن تكون أبا صالحا له وتحتويه وتمنع عنه كل أذية، لا أفهم ما فائدتك كأب لو لم تقم بواجبك على أكمل وجه»
ثم أحنت رأسها بإحباط وتارة تنظر لجثة إسلام المرعبة ثم قالت:
-«غريب حقا أنني أحببته أكثر منكما، أنتما والدان سيئان، سيحاسبكما الله عليه، لو كنتما سندا له منذ البداية لما عانى هكذا طوال حياته، ولما جرحني، ولما انفصلنا، ولكنا عشنا الآن حياةً سعيدة معا وبنينا عائلة لطيفة ومتكاملة، أصلا لِمَ أقول هذا الكلام لشخصين متحجري المشاعر، إلى هنا انتهت مهمتي معه وحانت مهمتكما، قوما له بجنازة محترمة وودعاه بطريقة تجعله يحس أنه لم يمت وحيدا رجاءً»
ثم غادرت المكان بكل برود وتوجهت نحو منزلها لتغرس رأسها في الوسادة وتبدأ بالبكاء بحرقة، كان ذلك يوما من أصعب أيام حياتها خسرت فيه الكثير وقالت كلاما ما كانت تجرؤ على قوله في حالاتها الطبيعية، وهكذا شفت غليلها وأوصلت الرسالة التي كان إسلام يخاف إيصالها لوالديه.
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:22 pm عدل 6 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
فتحت بثينة عينيها من النوم وقامت بتكاسل، إنه صباح روتيني ممل آخر ما من شيء مميز فيه، زحفت ببطء لتزيل الستائر عن النافذة فانصدمت أن الثلوج تغطي كل مكان وما تزال تهطل حتى الآن.
ركضت تحمل تستس وتعانقه ثم أخذته للنافذة ليرى كمية الثلوج المتراكمة لكنه لم يفهم شيئا، ثم صرخت بحماس:
-«مذهل! هذا يعني أنني لن أعمل اليوم»
ركضت تخبر والدتها عن الثلوج ثم اغتسلت وأحضرت كوب قهوة تحتسيه بجانب النافذة بينما تتصفح هاتفها وتقرأ الإشعارات وبالفعل وجدت الكثير من التعليقات على روايتها التي نشرتها عن حبيبها السابق إسلام.
قبل عام وعدة أشهر دخلت حالة اكتئاب صعبة بسبب موت إسلام ولكن ذلك لم يمنعها من نشر الرواية في حسابها، ولحسن الحظ تلقت ومازالت تتلقى الكثير من الحب والدعم من المتابعين وتأثروا بها كثيرا رغم أنها لم تخبرهم أنها جزء من قصة حياتها شخصيا.
كان اسم الرواية هو (خالد للأبد) وقد اختارت هذا الاسم لأنها تريد تخليد صاحب الرواية للأبد.
ابتسمت وهي تقرأ التعليقات وشعرت بسعادة غامرة ثم قالت:
-«ليتك هنا لتقرأ التعليقات التي كتبها الناس عن قصة حياتك، الجميع أحبوك وتعاطفوا معك حين سمعوا بالقصة من وجهة نظرك، أنت تبدو مسكينا حقا ومثيرا للشفقة ورغم ذلك مازلت لا أستطيع تقبل فكرة أنك تستحق المسامحة»
ثم صمتت فجأة وشردت تحدق بالثلج واستأنفت حديثها قائلة:
-«لقد أضفت لها أنك مرضت بالسرطان وانتقلت لجوار ربك والوحيدة التي وقفت معك هي حبيبتك السابقة أي أنا، صحيح أنك لم تطلب مني كتابة هذا لكنها الحقيقة»
وهكذا أمضت يومها تراقب الثلوج سعيدة وتتذكر أمنيته بأن يراها معها، لكن الموت خطفه قبل أن يصل شتاء ذلك الموسم ويريا ثلجا حقيقيا.
في الغد ذابت الثلوج وعاد الجو لطبيعته فذهبت بثينة ركضا لمزاولة العمل في وظيفتها الجديدة التي حصلت عليها قبل شهرين، كانت تعمل في دار الثقافة ووظيفتها هي تحرير المقالات التوعوية وضبط النشاطات والمسرحيات للأطفال والمراهقين.
وصلت للعمل متأخرة ذاك اليوم وجلست على حاسوبها ولحسن الحظ لم يوبخها المدير.
بينما تقوم بتحرير مقال عن أضرار التدخين للقاصرين على الحاسوب جاء المدير نحوها وراقب عملها ثم قال:
-«ممتاز، دائما تبهرينني بسرعتك في التحرير»
ردت عليه بثقة بعد أن قهقهت بصوت منخفض:
-«أعلم»
-بما أنكِ هنا فرجاءً قومي بطبع إعلان بأننا نقيم مسابقة للروايات داخل دار الثقافة هذا الشهر»
-«معقول!»
-«أجل، لِمَ الاستغراب؟»
صمتت لبعض الوقت تفكر ثم قالت:
-«هل يمكن للجميع الاشتراك؟ حتى موظفوا دار الثقافة؟»
-«أجل، لا مشكلة في ذلك»
فجأة خطرت على بالها فكرة رائعة بأن تشارك بروايتها المسماة (خالد للأبد) والتي كتبتها لحبيبها السابق لعلها تحصد نجاحا أكبر، لطالما تمنى إسلام انتشار الرواية لذا هي فرصة مذهلة لتحقيق حلمه، حتى لو كانت لا تملك ثقة بنفسها ولكنها ستحاول على الأقل.
بمجرد عودتها للمنزل قامت بتحويل الرواية لعمل pdf وانتظرت متى موعد بدء استقبال المشاركات في المسابقة وأرسلت مشاركتها وانتظرت فترة من الزمن.
في يوم إعلان النتائج ركضت بسرعة لدار الثقافة وكان قلبها ينبض بقوة فدخلت قاعة العروض وجلست على الكرسي مع باقي المتفرجين وكلها حماس وسعادة.
بدأت المقدمة بتقديم العرض وثرثرت كثيرا وفي النهاية حان وقت إعلان النتيجة فاستمع الكل بإنصات لها وهي تقول:
-«سيداتي وسادتي، ها قد آن الأوان لنعلن لكم نتائج مسابقة الروايات التي أقمناها قبل أيام، هل أنتم متحمسون؟ أم متوترون؟ أم الاثنين معا؟ إذًا، الرواية الفائزة هي...»
ثم صمتت وتوجهت بنظرها نحو المتفرجين المتحمسين لسماع النتيجة لترى ردة فعلهم ثم صرخت:
-«رواية قريني للكاتبة قمر مامكغ»
صفق الجميع بحرارة للفائزة ثم صعدت للمنصة لتستلم جائزتها في حين شعرت بثينة بإحباط شديد، وحين همت بالخروج ووصلت عند باب القاعة سمعت المقدمة تقول:
-«أما في المركز الثاني فقد حلت رواية (خالد للأبد) من كتابة موظفتنا اللطيفة بثينة علي»
انصدمت بثينة مما سمعته ووقفت مكانها متصنمة عند الباب بينما الجميع يحدقون بها ويصفقون، ومن شدة حماسها ركضت بسرعة للمنصة وصافحت المقدمة وهي تقول بحماس:
-«شكرا جزيلا لك»
-«لا أفهم ما الداعي للشكر فأنتِ من قمتِ بكل العمل واستحققتِ الفوز»
-«شكرا لأنكِ قمتِ بزف الخبر السار»
-«أوه! بشأن ذلك، العفو»
استلمت بثينة جائزتها والتي هي شهادة تكريمية ومبلغ مالي وترويج لروايتها الفائزة في حسابات دار الثقافة، وبعد أن انتهى الحفل جلست جانبا تحدق بالشهادة التي حصلت عليها وكانت في غاية السعادة لأن عملا من أعمالها حظي بالاهتمام وتم تتويجه بجائزة، وبينما تنظر للجائزة بإعجاب جاء المدير وجلس بجانبها وتحدث قائلا:
-«لدينا كاتبة مخضرمة ونحن لا ندري، ما سرك يا ترى؟»
-«طوال تلك السنوات التي كنت فيها دون وظيفة انتقلت للكتابة عبر الإنترنت وتدربت كثيرا لدرجة أنني اقتربت من نشر 50 كتابا، هذه الهواية ساعدتني كثيرا على الازدهار والتطور والتحسن من ناحية السرد والإقناع والإملاء والتحرير»
-«في أي موقع تنشرين؟»
-«في واتباد، لدي مدونة هناك»
-«أيمكنني إلقاء نظرة؟»
فركت بثينة مؤخرا رأسها بتوتر وقالت:
-«حقا؟! هل لديك وقت لإلقاء نظرة عليها؟»
-«طبعا، سأراها بعد العمل»
-«لكن...ليكن في علمك أن رواياتي القديمة مملة وسيئة لذا تجاهلها، لقد كنت أكتبها في بداياتي لذا ستنصدم مما تقرأ»
-«لا حاجة لتفسير ذلك فأنا أعلم»
-«وأيضا...نوع الروايات الذي أكتبه قد لا يناسبك، إنها تقريبا...أجنبية...أعني...لن تعجبك فأبطالها أجانب، أو لنقل أغلبهم أجانب»
-«أفهم من كلامك أنكِ تتهربين من إعطائي اسم مدونتك»
-«لا لا لا صدقني ليس الأمر كذلك...فقط أنا...نوعا ما...لا أريدك أن ترى السخافات التي كتبتها في بداياتي»
حمحم لها بانزعاج فقطبت حاجبيها وقالت:
-«اكتب بثينة علي واتباد في البحث وستظهر لك»
في تلك الليلة حين عاد المدير من العمل ألقى نظرة على حساب بثينة وبالفعل وجد الكثير من الهراء وقصص الحب الكورية السخيفة التي لا تلائم ذوقه، لكنه عثر أيضا على روايات جميلة وبليغة وذات حبكة مشوقة وأثناء قراءتها شعر بكمية المشاعر والأحاسيس التي فيها وأدرك أن خلفها كاتبة موهوبة تستحق أن تخرج للعيان.
مرت الأيام ونظمت دار الثقافة التي تعمل فيها بثينة مسرحية للأطفال لأغراص ترفيهية وبينما تركض هذه الأخيرة يمينا وشمالا وتُشرف على الحفل جاء للقاعة رجل كهل غريب يسأل عنها الموظفين حتى دلوه عليها.
مر العرض بسرعة البرق وغادر آخر عضو القاعة ولم يبقى بها سوى المشرفين والمنظمين من دار الثقافة، وبينما تتمشى بثينة حول صفوف الكراسي جاء إليها الرجل الكهل ووقف بجانبها وقال بصوت هادئ:
-«بثينة علي؟»
توجهت الأخيرة بناظريها نحوه وقالت:
-«أجل، كيف أساعدك؟»
تقدم منها وصافحها بطريقة رسمية ثم بدأ التعريف عن نفسه قائلا:
-«أدعى حسان وأنا أحد منظمي ومستثمري دار السلام للنشر والتوزيع»
-«أهلا بك، تشرفنا»
-«ربما يمكنني دعوتكِ على كوب قهوة بينما نتحدث فالحديث قد يطول»
-«لا أمانع، لكنني لا أحب القهوة، سأكتفي بشاي الليمون أو النعناع»
ذهبا للمقهى وطلب له القهوة ولها شاي الليمون كما أرادت، وكان واضحا من شكلها أنها مستغربة من هذه الدعوة الغريبة، بعد لحظات من الصمت والتحديق في الفراغ أخرج بطاقة المعايدة خاصته من جيبه ووضعها أمامها فالتقطتها وقرأتها، ثم قال بابتسامة:
-«هذه بطاقتنا في حال أردتِ المزيد من التفاصيل حول دار نشرنا»
ما تزال بثينة مستغربة ولذلك قرأت البطاقة في استحياء وبسرعة البرق وقالت:
-«جميل»
-«هل فكرتِ يوما أن تنتقلي بوظيفتك لمستوى آخر؟»
-«أعتقد أنني فهمت قصدك، تريد مني أن أترك العمل في دار الثقافة وأنتقل للعمل عندك صحيح؟ لا أفهم لماذا تطلب مني ذلك فأنا مجرد موظفة مساعدة ولا مميزات خارقة لدي»
-«مهلا مهلا، نعم أريد أن أعمل معك ولكن لم أرد جعلك مجرد موظفة تنسق الحفلات وتكتب المقالات، لدي لكِ عرض أفضل»
-«قرأت الروايات الثلاث الفائزة بمسابقة دار الثقافة ولكن ما جذبني أكثر روايتك بعنوان (خالد للأبد) وقد لمست فيك كمية هائلة من الأحاسيس والإبداع ولهذا قررت الكلام معك»
رمشت بعينيها مجددا وقالت:
-«بصراحة لا أدري، لا يمكنني القول بأن روايتي بتلك الروعة حتى يطالب الآخرون بعملي معهم لأجلها»
-«أنتِ لا تعطين نفسكِ وموهبتكِ حقهما الكامل كما أرى»
-«محق، أمر بالكثير من المطبات في حياتي مما يجعلني ضعيفة الشخصية ومتشائمة»
-«سأسألك سؤالا هاما وأجيبيني بصراحة»
-«تفضل»
-«هل تريدين أن تكوني كاتبة مشهورة ويرى الجميع أعمالك وتُقرأ ككتب ورقية في جميع البقاع العربية؟»
توقفت عند هذا السؤال المهم وكررته على نفسها مرارا وتكرارا، ورغم رغبتها الشديدة بأن تصبح مشهورة وتجني الكثير من المال لكن مؤخرا نضج تفكيرها ولم يعد يهمها الاسم والشهرة بسبب كل تلك الكسرات والأحزان التي أصابتها، لذا ردت عليه بصوت بارد حزين:
-«هل قلت الشهرة؟ لا أحتاجها، كل ما أريده أن يصل تفكيري للناس، وأقصد بالتفكير وجهات نظري وأحاسيسي، أريد أن يعلم الناس أن هناك فتاةً اسمها بثينة تحترق من الداخل»
-«أهذا رفض؟»
ومجددا فكرت لبعض الوقت وتذكرت إسلام وحلمه الكبير بأن يبقى حيا في عمل من أعمالها ويتم ذكره أكثر من مرة لذا قامت من مكانها بسرعة وصرخت بصوت عالٍ:
-«موافقة، أين أوقع؟ ماذا أفعل؟ متى نبدأ؟»
استغرب الرجل القابع أمامها من ردة فعلها الغريبة هذه ففرك مؤخرة رأسه بتوتر وقال:
-«حسنا، اتركي رقمك لي وسأتواصل معك»
ابتسمت بسعادة وتنهدت بعمق، أخيرا شعرت بأن أمنية إسلام وأحلامه لن تذهب هباءً منثورا وستتاح لها فرصة جعله خالدا على ألسنة الناس وفي أدمغتهم كذلك.
بعد عدة أسابيع بدأ العمل على الترتيبات الأولية لرواية (خالد للأبد) وقد وقعت بثينة على العقد الذي بينها وبين دار السلام للنشر والتوزيع وباشرت الأمور القانونية المتعلقة بها.
وفي المرحلة التالية تم عرض الرواية على نخبة من المنقحين المختصين من أجل المراجعات النقدية والإملائية وجعل الرواية تخرج بأبهى حلة للعلن.
أما في المرحلة الأخيرة فقد بدأ نشر الكتاب على شكل كتاب إلكتروني وورقي مسجل تحت اسم دار النشر تلك وانتهت بذلك أصعب مرحلة.
في البداية لم ينل الكتاب استحسان الناس كون بثينة كاتبة جديدة وغير معروفة ولكن مع الترويجات التي بذلتها دار النشر ومع محاولات بثينة المستمرة في الترويج لنفسها على مواقع التواصل الاجتماعي فقد لاقى اهتمام بعض العامة وبدأت الطلبات الإلكترونية عليه.
في إحدى الأيام الشتوية الهادئة ذهبت بثينة للمقبرة ومعها باقة ورد ثم وضعتها على إحدى القبور وأنحنت تلمس الإسم وتاريخ الوفاة اللذين كتبا عليه، كان ذاك هو قبر إسلام الشخص الذي أحبته وكرهته بنفس القدر.
انحنت تلمس تراب قبره بهدوء كما لو أنها تمرر يدها على جسده الهزيل المتعب الذي أرهقته الحياة بما يكفي، دمعت عيناها وارتجفت شفتاها لحاله هذه وقالت بهدوء:
-«إسلام، أنا أؤمن أنك تستطيع رؤية وسماع كل ما أقوله الآن، كيف حالك؟ آسفة لأنني لم آتي لزيارتك طوال هذه المدة، آسفة حقا، لم أكن أملك الجرأة لمقابلتك مرة ثانية حتى، لا أعلم لماذا أشعر بشعور غريب وضيق في صدري كلما أردت المجيء، لقد مرت سنة ونصف على وفاتك ولكنني أتذكر وجودك كما لو أنك كنت هنا قبل دقائق»
ثم وضعت يدها في حقيبتها وأخرجت الرواية الورقية التي كتبتها له ورفعتها باتجاهه كما لو أنها تريد منه أن يراها، ثم استأنفت الكلام:
-«هذه هي أمنيتك التي لطالما أردتها، لقد حققتها لك، لقد خلَّدتك، أتمنى أنك سعيد، أمنية كهذه لم يكن من السهل البتة تحويلها لحقيقة، لنتحدث بصراحة، لم أتوقع يوما أنني سأنجح بفضلها وأطبعها وأفوز بمسابقات بمساعداتها، دائما ما كانت ثقتي بنفسي مهزوزة ولطالما ظننت أن أفكاري وأعمالي لا ترتقي لمرتبة عمل عالمي مطبوع، أنا حقا مستغربة! دعنا نقل أنه رابط عجيب، كل ما أنا عليه الآن من نجاح كان بفضلك، نعم فبفضلك وبفضل الجرح الذي تركته في قلبي بحثت عن شيء أغطي به الفراغ العاطفي الذي داخلي، ولهذا بدأت ككاتبة، وقررت أن أعبر عما بداخلي عن طريق الروايات، ويوما بعد يوم تطورت ونميت الشغف الذي بداخلي إلى أن وصلت لهذه النقطة، ولعل لك أكبر فضل في نجاح رواية (خالد للأبد) فأنت صاحب القصة والفكرة والأحداث، يالها من سلسلة صدف غريبة حقا! أنا ممتنة لك على كل شيء»
نظرت بجانبها فلاحظت وجها لامرأة مألوفة وكانت متأثرة بما تقوله، وحين تمعنت فيها وحاولت تذكرها أدركت أنها والدة إسلام ذاتها.
تنحنحت بثينة ونهضت من أمام القبر ووقفت مقابلة لها ثم ألقت عليها التحية بابتسامة متكلفة وردت عليها الأخرى ثم اقتربت منها لتقف كلاهما أمام القبر وتقول والدة إسلام بصوت حزين:
-«طوال هذه المدة كنت آتي ولا أجدك، سعيدة أنكِ أتيتِ الآن»
-«لم أستطع، أشعر بالرعب من رؤيته نائما تحت التراب هكذا، لم يكن هذا الشعور يصيبني حتى حين كان على قيد الحياة»
-«أفهمك، الأمر مرعب حتى بالنسبة لي»
-«هل تأتين كثيرا؟»
-«أجل، يوميا»
قالت بثينة باستغراب:
-«حقا؟!»
-«أعلم ما تودين قوله، ومعكِ حق، لم أقدره حين كان على قيد الحياة والآن آتي لزيارته باستمرار»
-«لم أقل ذلك، بالعكس سعيدة أنه حظي ببعض الاهتمام»
-«وهذا بفضلك، الكلام الذي قلته لي آخر مرة كان بمثابة صفعة قوية لي في الوجه، صفعة أيقظتني من سبات عميق جدا، أنتِ نعمة»
ابتسمت بثينة بتكلف ونظرت لقبر إسلام، ثم انحنت والدته تلمس حبات التراب اليابسة الخالية من الحياة، كانت تمرر يدها عليه وعيناها قد ابتلتا بالدموع تحارب جاهدة لحبسها كي لا تسقط وتفسد لقاءهما السعيد ذاك.
بعد دقائق وقفت مجددا ونظرت لبثينة وقالت:
-«سمعتكِ تحدثينه عن رواية أو شيء ما من هذا القبيل»
أومأت بثينة برأسها أنْ نعم وقالت:
-«أجل، قبل وفاته بأشهر اتفقنا على مشروع مشترك يجمع بين قصة حياته ومهاراتي الأدبية، وبالفعل بذلت كل جهدي لإنجاح المشروع وها هو ذا يلقى رواجا لا بأس به في الوسط الأدبي، لكن مازال الوقت مبكرا وسيلقى رواجا أكبر»
-«أيمكنني إلقاء نظرة عليه؟»
-«طبعا»
أعطتها الرواية الورقية التي معها فنظرت للغلاف وابتسمت بحزن ثم فتحت أوراقها تقلبها بسرعة وقالت:
-«إذًا فهذه الصفحات تحوي الجانب المخفي من حياة ابني، الجانب الذي لم يكلمني عنه مطلقا، الجانب الذي لو عرفته مبكرا لأعطيته حقه من الاهتمام والحب»
-«أجل، كل ما قلتِه»
-«رغم تأخر الوقت لكنني سأقرأ كل صفحة وكل حرف منها بتأنٍ، وسأغوص في تفاصيلها وأعرف ما الذي يخفيه قلب إنسان عاش كابن زنا طوال حياته»
-«لا أحبذ أن تناديه بهذه الكلمة، هو لم يكن ابن زنا يوما، لقد كان شخصا جيدا، المجتمع فقط يعطي مصطلحات تحقيرية بينما نحن جميعا متشابهون ولا أحد فينا خير من الآخر إلا بالتقوى»
-«شكرا لك، بثينة»
ابتسمت كل منهما للأخرى ثم انطلقت بثينة ركضا بعد أن حظيت بحديث دافئ ولطيف مع حبيبها السابق أو على الأقل على ما تبقى من رفاته، وجعلت والدته تتعلم الكثير من العبر المهمة وتقدره حسن تقدير.
حينما ذهبت لدار الثقافة أخبرتها إحدى الموظفات هناك أن المدير ينتظرها وكان برفقته امرأة ورجل آخرين وبدا أن الجميع منهمكون في نقاش هام حول موضوع ما.
تجاوزت الجميع وذهبت إليهم فرحب بها المدير وعرفها على الشخصين الواقفين أمامها قائلا:
-«أعرفك على السيد فرحان ومساعدته زهرة، لقد أتيا خصيصا لرؤيتك»
-«لرؤيتي أنا؟! ولماذا؟!»
تحدث السيد فرحان بعد أن أخرج بطاقة معايدة من جيبه وقدمها لبثينة:
-«م م م مخرج سينمائي! ل ل ل لا تقل أن ما ببالي صحيح»
انفجر ثلاثتهم ضحكا عليها وقال المدير:
-«تمهلي يا بثينة، ما تفكرين به صحيح ولكن الطريق طويلة جدا أمامك»
ثم أردف المخرج فرحان:
-«إنها أول مرة لي أخرج عملا سينمائيا ولذلك بحثت طويلا عن شيء يرضي ذوقي المتطلب ويشكل ثورة في عالم المسلسلات التلفزيونية، وكأي شخص متطلب فلم أجد بعد ما يلائمني، ولكن الصدمة هي أنني جئت لزيارة دار الثقافة قبل أسبوع ووجدت نسخة من روايتك المسماة (خالد للأبد) ويال الروعة! كما لو أنها فردة حذاء عثرت على زوجها، لذا ما رأيك أن نحولها لعمل سينمائي أو مسلسل؟»
رمشت بثينة بعينيها باستغراب لعدة دقائق واحتاجت فترة طويلة لتستوعب أن ذلك العمل الذي لطالما تمنت نجاحه ولو قليلا قد نجح أضعاف أضعاف ما أرادته، ولذلك هزت رأسها ببطء وابتسمت ابتسامة لطيفة معبرة عن رضاها وسعادتها وقالت:
-«موافقة»
النهاية
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:23 pm عدل 7 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
المرحلة الأخيرة ستنتهي بتاريخ 7 جويلية والنتائج النهائية بتاريخ 10 أوت وهناك 5 فائزين لذا فإمكانة فوز روايتي لا بأس بها لذا تمنوا لي التوفيق وسأعلمكم حالما تظهر النتائج وأوافيكم بالتفاصيل
ولا تنسوا متابعة إنستغرامي bothaina__ali
ووووو بااااي
• تاريخ النشر : من 8 مارس إلى 20 جوان 2022
بثينة علي
عدل سابقا من قبل بثينة علي في الجمعة أغسطس 30, 2024 12:35 pm عدل 5 مرات
بثينة علي يعجبه هذا الموضوع
بثينة علي Admin
المساهمات : 1314 تاريخ التسجيل : 27/05/2021 العمر : 27
موضوع: رد: رِوَايَةُ خَلِّدِينِي!! (بِقَلَم : بُثَيْنَة عَلِي) الأربعاء أغسطس 17, 2022 10:11 am
رواية خلِّديني : إنجازات الرواية
ربما لم تفز روايتي هذه بمسابقة النوفيلا وذلك بسبب أن حسابي حذف وتم إقصائي لكنني سعيدة بالإنجازات التي أنجزتها
فبعد أن خرجت الماضي من أول جولة عوضني الله في هذا العام بأن انتقلت للمرحلة الثانية والثالثة